في منطقة (الظاهر) الأكثر شعبية وتلاحماً سكانياً، ولد الفلسطيني محمود خضر، وسط ركام هائل من الآثار الإسلامية، فتعلقت بها عينا الصبي الصغير، وعلى الرغم من سلوكه درب المحاماة والقانون بجامعة عين شمس، إلا أنه أدرك أن القدمين الصغيرتين اللتين قادتاه في دروب وشوارع القاهرة القديمة من حي الحسين إلى السيدة زينب، مروراً بقلعة محمد علي باشا متأملاً المآذن وجدران المساجد، سوف تقوده في سن الشباب إلى صناعة أكبر موسوعة عربية عن الفنون الإسلامية.
عبر أربعة عصور متتالية يمكنك الوقوف طويلاً والتأمل بحس صوفي وملامسة الألوان الزاهية التي تحكي عصور الإسلام الزاهرة فقط، إذا تصفحت كتاب خضر الذي يقع في 230 صفحة عامرة بالصور والرسوم التي تحكي براعة الفنان المسلم قديماً.
ذلك الفلسطيني قاهري الهوى، عربي الهوية، إسلامي النزعة، اتخذ من الفلسفة أيضاً وعاء آخر، فتدفقت في شرايينه مسحات من الصوفية، جعلت القلب وجلاً أمام الزخارف والمنمنمات وحكايا الصناع في العصور التليدة، وهنا في هذا الحوار الذي جرى في مناسبة حصوله على جائزة التقدم العلمي بالكويت يحكي لنا تفاصيل إنجازه العلمي الكبير، ويوضح كيف كانت الفنون تخلق الحوار مع الآخر والتسامح في عصور الظلام، فإلى التفاصيل.
بداية دراستي للقانون كانت مهنية بحتة ولا تخلو من الحب ولذا حصلت فيها على دراسات عليا أتاحت لي المنهج العلمي الذي ساعدني في التعامل مع الفنون الإسلامية التي هي في المقام الأول هواية تحولت إلى هوية وعشق منذ البدايات الأولى حيث كنت أسكن منطقة الظاهر بيبرس بالقاهرة القديمة حيث ولدت هناك وعشت وسط زخم هائل من الزخارف والرسوم التي لفتت نظري في مراحل الطفولة والصبا، ولقد كان لمساجد مصر الفاطمية الأثر الأكبر في تشرب هذه المنمنمات الصغيرة عبر تجوالي اليومي الذي امتد إلى مناطق: الحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة والقلعة، وغير ذلك من الكم الهائل من الآثار الإسلامية التي تمتاز بها قاهرة المعز.
الرحلة كما ذكرت بدأت مبكراً، ولقد لفت انتباهي غير الآثار الإسلامية وحدات الزخارف الصغيرة الموجودة على المعابد الفرعونية، تلك التي تزين الأعمدة والجدران وبها تيجان الأعمدة المرسومة بزهرة اللوتس المغلقة منها والمفتوحة، كوحدة زخرفية، ثم هناك المعابد الرومانية التي تستخدم فيها زهرة الأكانوس كوحدة زخرفية أخرى، وقارنت بينها وبين الأوراق التي تستخدم في الفنون الإسلامية كأوراق النخيل، والعنب، وهذا لفت انتباهي للاختلافات الفنية بين حضارة وأخرى. ربما وجدت في البداية صعوبة في الفنون الإسلامية الدقيقة، فقد ركز الباحثون في معظمهم على العمارة الإسلامية، وهذا ما جعلني أتتبع مراحل هذا الفن، في الحفر على الخشب كما هو موجود في المساجد القديمة، وكذلك الأطباق والأواني التي تميزت بها الحضارة الإسلامية على امتدادها وعصورها المختلفة.
قمت بالطبع بزيارات عديدة لكثير من المدن والعواصم كي ألقي الضوء على الفنون الباقية فيها، لكن القاهرة في الواقع أغنتني عن الكثير من عناء البحث، حيث تحوي بين جنباتها المتحف الإسلامي الذي يجمع بين جدرانه كل شاردة وواردة لكل العصور، وممثل أيضا في جميع القطع وأذكر أنني عندما ذهبت إلى سوريا على سبيل المثال لأبحث في العصر المملوكي، وجدت دراسات في هذا المجال، لكن لم تقع عيني على وحدات زخرفية، أو قطع فنية تشير إلى ذلك العصر، وهو هدفي الأول والأخير، لكن القاهرة تتمثل فيها كل الفنون لكل العصور، فتجد النسيج الفاطمي والمملوكي والأيوبي، والخزف العباسي والفاطمي والأموي، أما النحت على الخشب فربما تتميز به دمشق وبغداد عن القاهرة.
وعن جولاتي في العالم الخارجي بعيداً عن المدن العربية فقد أتاحت لي فرصة القرب والعمل مع الشاعر الإماراتي محمد السويدي فرصاً أكبر لزيادة معظم المتاحف في لندن وباريس وألمانيا واليابان وأغلبها تحتوي على قسم إسلامي وهو ما ساعدني في رحلة البحث والدراسة والتأمل لحضارة الشرق التي كانت يوماً زاهرة في الغرب كما هي في بلادنا، وفي نفس اللحظة تابعت رحلات وهجرات العمال من الشرق إلى الغرب والعكس، وكيف انعكس ذلك على ملامح وأشكال الزخارف التي خلطت الحضارات ببعضها البعض في نسيج إنساني ربما يبدو في النهاية واحداً.
بدأ الإنسان أولاً في بناء المعبد، ثم تطور به الحال عندما تحول المعبد من كوخ صغير إلى مبنى يحوي جدراناً إلى التزيين والرسم على الجدران من هنا جاءت فكرة الفنون وقبل ذلك كان الفن عموماً يقتصر على الغناء والرقص المقدس، وجاءت الفلسفة الإسلامية في خطابها متجهة إلى تحريم وكراهية الرسم، خاصة الإنسان والحيوان وبدأ الفنان المسلم يعبر عن نفسه بطريقة تجريدية، وتمكن من تحوير أدواته والتمرد قليلاً عندما أمسك بزهرة النبات وطوعها للنواحي الزخرفية فظهر فن التوريق المتشابك الرائع وعندما ننظر إلى القطعة من هذا اللون من الفنون لا نجد لها بداية أو نهاية نمسك بها، يشبه إلى حد كبير فن الأرابيسك، وله معان صوفية راقية، وهذا يجسد لك التأثر لدى الفن الإسلامي بالفنون الأخرى، ليجسدها فيما بعد في صورة موضوعات وفلسفات تتفق مع روح هذا الدين العظيم.
الأرابيسك ليس وحده الفن الإسلامي الخالص، بل يعتبر لوناً من الألوان الأخرى التي جربها الفنان المسلم وطوعها لفكرة الكتابة، ومن هنا استخدم الكتاب عناصره الزخرفية بشكل فني ظهر في النسيج، وبالمناسبة هذا الفن موجود حتى اللحظة الحالية في الحضارة الغربية ربما تبدو الكتابات أو الحروف غير مقروءة ولكنها تستخدم كوحدة زخرفية لتجميل النسيج والخشب والحوائط. وفن الكتابة هو الذي أوحى للمسلم بفكرة التوظيف كأساس روحي وفلسفي، وأضفى لمحة صوفية على إبداعه وليس مجرد زينة أو شكلاً جمالياً فقط.
عندما نتحدث عن الجمال بشكل عام لابد أن يكون هناك معايير وقيم نستطيع أن نحدد من خلالها الجميل والقبيح، وبقدر اختلاف الآراء حول اللوحة التشكيلية يمكن رصد درجات الاتفاق والاختلاف وهذا يدفع إلى الحوار في الفن، وبقدر تقبل الآخر للرأي العكسي نصل إلى ما يسمى بقيمة التسامح. وأحب أن أوضح أن الفن الإسلامي هو فن دنيوي وليس دينياً، مثل الفن الموجود على الكنائس كالعذراء والمسيح، وخلافه، لكنك لا تجد الرسوم التمهيدية لأشخاص على جدران المساجد، وربما تلحظ أن الفن المرسوم على جدران المساجد هو نفسه الموجود في البيوت القديمة، فلم يستخدم الفنان المسلم عناصر تشخيصية لتأكيد رحلة الرسول عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج، ولا تجد تعبيراً في الفن الإسلامي إجمالاً إلا لدى الشيعة الذين تعاملوا منذ البداية مع التشخيص كلغة تعبر عن معتقداتهم، لكن على الرغم من ذلك كله فإن كل الوحدات الفنية التي تشكل إجمالي الفن الإسلامي تخاطب الروح والقلب والوجدان وهي وسائل للحوار والتسامح والتعايش الذي هو قمة الهرم والمعنى الحقيقي للفن.
وفي هذا الاتجاه نحن بحاجة إلى إعادة قراءة تراثنا من جديد وما يقبله العقل والمنطق علينا أن نقبل به وما لا يقبله العقل والمنطق لا نقبله على الإطلاق، وننحيه جانباً، وعلينا قراءة الحضارة الغربية جيداً برؤية جديدة وعصرية وما ينسجم مع تراثنا وتاريخنا، خاصة في النواحي العملية نقبله فوراً لأن ذلك يؤدي بالضرورة إلى نهضة الأمة، ونكون متسامحين مع الآخر ولا ننغلق على أنفسنا أو نسجنها خلف قضبان اليأس والتشكيك في النوايا. ومن يشعر بهذه الروح لابد أنه يشعر بالفنون، ومن ثم يمكن لهذا الإنسان أن تبقى حياته الزوجية جيدة ويبقى أكله جيداً، وأثاث بيته أيضاَ، وبالتالي سيبقى تراثه أفضل، ويعيش في سعادة دائماً لأن الإنسان هنا يختار الحوار والتسامح. وبالتالي يملك المنهج للتفكير والقيم لتحديد القبح والجمال.
كل إنسان لابد أن يرتبط بالبيئة التي تربى فيها، لأنه في الأساس نتاج طبيعي لهذه البيئة، فالبناء بالطين لا يكون إلا في المناطق الحارة، والأرابيسك يكون نموذجاً مثالياً لتسريب تيارات الهواء، والسجادة تناسب أجواء الصحراء لأنها سهلة التنظيف من الرمال، وبالتالي أغلب مدننا العربية لا تناسب بيئتها ملامح العمارة الحديثة بصرف النظر عن نموذج البيت الأبيض أو غيره، وعلى سبيل المثال فإنك تلحظ الأبنية العالية في الخليج عموماً من الزجاج، وهذا لا يناسب أجواءنا على الإطلاق، لكن يمكن المزج بين العمارة الحديثة والإسلامية القديمة حتى تلبي احتياجات العصر من ناحية وتؤكد على هويتنا من ناحية أخرى، ويمكن أن يحدث الانسجام والتناغم والتفاعل وليس هناك ما يمنع أن نقتبس مفردات غربية من أي حضارة أخرى تتلاءم مع البيئة العربية، لكن الخروج على العمارة الإسلامية أعتبره جريمة ترتكب في شوارع العرب يومياً ولا ينبغي السكوت عليها.
بالطبع الآلة الآن لها دورها الواضح، لكن العامل الماهر لا يمكن أن ينتهي دوره رغم وجودها خاصة في مصر وسوريا والمغرب، وهناك عاملون في صناعات وفنون إسلامية كثيرة يرفضون رفضاً قاطعاً إدخال الآلة الحديثة على الرغم من توافر عناصر الدقة والإتقان، وهنا أشير إلى ضرورة وجود دور للحكومات والمؤسسات الثقافية العربية في دعم هؤلاء الذين يحافظون على هويتنا الثقافية النابعة من تلك الفنون اليدوية، وأعتقد أن الفنون اليدوية لا يختلف معي الكثيرون في أنها الأغلى ثمناً وقيمة، لأنها تحمل روح الفنان صانع القطعة التي تختلط فيها أنفاسه وعرقه مؤكدة إسلامية هذا الفن وهويته العربية الأصيلة. كما أن لدي اقتراحاً آخر بأن تركز المدارس الصناعية والمراكز الأهلية على الفنون التطبيقية الإسلامية لتخرج لنا أجيالاً متعاقبة تحترف صناعة النسيج بمهاراته اليدوية، والحفر على الخشب، والعاج والزخارف المختلفة التي تحتاج إلى جانب أكاديمي يتعلمه الطالب في هذه المدارس والمعاهد بجانب الحرفة اليدوية، يمكن بذلك خلق أجيال تحافظ على التراث الإسلامي الرائع.
الزجاجون إلى حد كبير اختفوا، والموجودون الآن فقط هم فنانو الحفر على الخشب، ومستواهم الفني يعتبر راقياً بالقياس للفن القديم، لكن فن الزجاج الآن اتجه غرباً، ولعل أشهر مناطق إنتاجه الآن في العالم إيطاليا، والأحجار الكريمة تدخلت الآلة في تشكيلها، وبالتالي ذهبت إلى غير رجعة من الشرق إلى الغرب، ولعلك تلحظ أنها صناعة متقدمة ومتطورة، وغالية إلى حد جنوني يبعد تماماً عن جوهر الفن الراقي الذي يخاطب الإحساس والوجدان، ويمكننا الإعتماد على الأرابيسك والنسيج والسجاد، التي يوجد لها صناع مهرة في تونس ومصر والجزائر وسوريا وإيران.
في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن لدى الناس قدرة مالية، وكان هناك زهد وتقشف متعمد، ومثال ذلك أن سيدنا عثمان بن عفان كان غنياً وغيره تجار كثيرون أغنياء لكن أموالهم جميعاً كانت مسخّرة لنشر الدين الإسلامي والفتوحات خاصة في عهد الخلفاء الراشدين ومسجد الرسول في المدينة المنورة تم بناؤه من الطين وسعف النخيل نتيجة هذا الزهد والبساطة، لكن احتكاك المسلمين بالرومان والفرس غير المفاهيم، ومن هنا بدأت ظاهرة بناء القصور والمساجد فيما بعد، لكن أبرز الذين روجوا لفكرة الفنون الإسلامية ودعمها كصناعات وحرف مميزة كان معاوية بن أبي سفيان في العصر الأموي، حيث نشاهد القصور العتيقة في كثير من البلدان الإسلامية على جدرانها الزخارف والألوان التي تؤكد عبقرية الفنان المسلم في ذلك العصر. ثم جاء من بعد ذلك العصر الفاطمي الذي كان أكثر العصور غنى وجمالاً، وقد انعكس ذلك على حياة الناس الاقتصادية، وتنوعت الفنون واتخذت أشكالاً جديدة، حيث سجل الفنان المسلم على الخشب لعبة التحطيب والمبارزة، والفروسية في ميدان القتال، والسجاد المطعم بالزخارف والخزف ذو البريق المعدني الأخاذ. وقد انعكس ذلك بالطبع على الحياة الاجتماعية. وأستطيع القول إن العصر الفاطمي تأثر إلى حد كبير بالفنون الفرعونية لأنها جسدت شكل الحياة وحولتها عبر فنونها إلى قصص وسير على الجدران، والفن الإسلامي ليس مولوداً من فراغ، بل هو نتاج تأثير البيئات المختلفة التي انتشرت فيها الديانة الإسلامية، وبالتالي كان طبيعياً أن يتأثر بالحضارة الفرعونية، والرومانية والفارسية والبيزنطية، ويتضح لك جلياً من خلال الوحدات الزخرفية.
الفنان سواء بوعي أو بدون وعي صاحب رؤية للحياة، إذاً هو فنان وصانع ماهر وإذا نظرنا إلى فلسفة هذا المنتج أو الصانع، نجد أنه رجل طبق فلسفة الصوفيين، واتبع قطعة لا بداية لها ولا نهاية، فأحياناً نرى القطعة الفنية تلك وكأن بها نقصاناً، لكنه في حد ذاته جمال وكمال فهو يطبق فلسفته في الحياة، وحين يطبق فلسفته دون أن يعي يبقى الهدف أنه يطبق فلسفته في حد ذاتها. والفنان الذي يعمل في أشياء متناقضة وغير منسجمة مع بعضها البعض ولا يوجد بها عنصر الروح، عمله لا يبقى وينتهي بمرور الزمن لموت الأصالة في هذا العمل، فلابد أن يكون عمله نابعاً من رؤية يرى بها عنصري الموت والحياة، عندئذ فقط سيبقى هذا العمل، وذلك من خلال فلسفته، سواء أدرك أم لم يدرك لأنه وضع قيمة لهذا العمل نتيجة إدراكه الحياة ووعيه الفني.