فيما اكتفى المسلمون بالحزن والألم، كانت كونستانز الفرنسية زوجةُ ألفونسو السادس ومعها كبيرُ الرهبان برناردو يعطيان أوامرهما بهدم محرابِ مسجدِ طليطلةَ الجامع، وبناءِالمذبحِ في مكانه، وفي مشهدٍ تراجيدي رُفعَ جرسُ الكنيسةِ أعلى مئذنةِ الجامعِ بحضورِ الملكةِ والقساوسةِ ووجهاءِ الإسبان النصارى، وعندما عادَ الملكُ ألفونسو من ليون كان تحويلُ مسجدِ طليطلةَ الجامع إلى كاتدرائيةٍ قد تم، فتظاهرَ بالغضبِ لمخالفةِ شروطِ التسليمِ التي وافقَ عليها عندَ دخولهِ المدينة، ولكنَّهُ في أعماقهِ، وبموافقةٍ مسبقةٍ، كان راضيًا عمَّا فعلتهُ زوجتُهُ والرَّاهبُ برناردو الذي سرعانَ ما رقاهُ الفونسو ليشغلَ منصبَ رئيسِ أساقفةِ إسبانيا كلِّها، وجعلَ مقرَّهُ الدائمَ مدينةَ طليطلة، وسرعانَ ما تحولتْ المدينةُ كلُّها إلى النصرانيةِ وسطَ حالةِ الكمدِ والحزنِ التي انتابتْ المسلمين. قبلَ 375 عامًا من هذا المشهدِ الفارق، كان طارقُ بن زياد الليثي بعدَ عبورهِ وانتصارهِ على جيوشِ القوطِ في إبريل (عام 711 م) يخترقُ على رأسِ جيشهِ وسطَ شبهِ جزيرةِ أيبيريا صوبَ عاصمةِ القوطِ "طليطلة"، التي استولى عليها دونَ مقاومةٍ تذكر، بعدَ أن غادرها الزعماءُ والقادةُ وكبارُ رجالِ الكنيسة، مُحقِّقًا بذلكَ كسبًا عسكريًّا وسياسيًّا كبيرًا، وبادرَ إلى تنظيمِ شؤونِ البلادِ المفتوحةِ وتدبيرِ شؤونِ أهلها. منذُ قيامِ الحكمِ الإسلامي في الأندلسِ ومدينةِ طليطلة وتوابعها تُعرف باسمِ "الثغر الأوسط" لوقوعها على المشارفِ الأندلسيَّةِ الشماليَّةِ المُلاصقةِ للممالكِ النصرانيةِ الإسبانية، فكانتْ خطَّ الدفاعِ الأمامي الأوَّلَ ضدَّ محاولاتِ نصارى الشمالِ استرداد الأندلس. وكان الكثيرُ من الإسبان يعتقدونَ أنَّ غزوةَ المسلمينَ لبلادهم وَقْتية، ولن يلبثوا أن يعودوا لبلادِهم بعدَ أن يحصلوا على الغنائم والمغانم، ولكنَّهم وجدوا أنَّ المسلمين يرسخون لوجودهم ويعملون على اكتسابِ أراضٍ جديدةٍ في كلِّ اتجاه، فهبَّ أهلُ طليطلة بما لها من خصوصيةٍ رافضينَ وجودَ المسلمينَ كدولةٍ في مدينتهم أو على كاملِ الأراضي الإسبانية، وسرعانَ ما تحوَّلَ هذا الرَّفضُ إلى كراهيةٍ عميقةٍ للإسلامٍ والمسلمين إذ إنَّ طليطلةَ قاعدةٌ مهمةٌ للدين المسيحي في إسبانيا. وبرغمِ كراهيةِ أهلِ طليطلةَ للإسلامِ والمسلمين، كانتْ سلطاتُ قرطبةَ المسلمة تعاملهم بلطفٍ وتسامح، ولذلك فإنه ومنذُ سنواتِ دخولِ المسلمين الأولى أخذَ أهلُ طليطلةَ في التحولِ بالتدريجِ وببطءٍ من النصرانيةِ إلى الإسلام، وكان ذلكَ مصحوبًا بحركةِ تعريبٍ ونشرٍ للغةِ العربية، فكانَ على الذين اعتنقوا الإسلامَ أن يبادروا إلى تعلُّمِ اللغةِ العربيةِ لفهمِ أحكامِهِ وقواعده، وأيضًا لسهولةِ التعاملِ معَ الحُكامِ الجُدد. وبعدَ مرورِ حوالي خمسينَ سنةً على دخولِ الإسلامِ طليطلةَ كان قد نشأ جيلٌ جديدٌ من أبنائها الأصليين في ظلِّ الإسلامِ واللغة العربية. وفي أواخر القرنِ الثامن الميلادي، كان الإسبانُ الأصليّون الذين اعتنقوا الإسلام وصاروا يُعرفون باسم "المولّدون" يمثلونَ أكثريةً غالبةً في طليطلة وصارَ لهم شأنٌ في حياةِ المدينة. أمَّا الذين تمسَّكوا بالنصرانيةِ وتعلموا اللغةَ العربيةَ وتعاملوا بها فقد أُطلِقَ عليهم اسم "المستعربون".
انقضى عصرُ الولاةِ في الأندلس بما كان فيه من خلافات، وظلَّ أهلُ طليطلةَ مستمرّين في موقفهم الرَّافضِ والكارهِ لحكَّامِ قرطبةَ المسلمين، وبدأ عصرُ الإمارةِ على يدِ الأميرِ عبد الرحمن الأول الملقب بـ "عبد الرحمن الدَّاخل" القادمِ من المشرقِ هاربًا من سيوفِ العباسيين، والذي حرصَ منذُ البدايةِ على القضاءِ على قواعدِ الرفضِ والتمرُّدِ وفي مقدمتها طليطلة. وتمكَّنَ عبدُ الرحمن الدَّاخل من إخضاعِ حركاتِ التمرُّدِ والعصيانِ في طليطلةَ بقوةِ السلاحِ، واستكانتْ المدينةُ لسلطةِ قرطبةَ لفترةٍ قليلةٍ إذ إن الدَّاخلَ تُوفي، وبوفاتهِ شقتْ المدينةُ عصا الطاعةِ وظلَّتْ على تمرُّدِها وعِداءها التقليدي لسلطةِ قرطبة، إلى أن كلَّفَ الأميرُ الحكمُ الأولُ أحدَ قوَّادِه الكبار في قرطبة "عمروس بن يوسف" –المُوَلّد من أصلٍ إسباني –بالقضاءِ على تمرُّدٍ خطيرٍ كان قد شبَّ في طليطلة. رأى ابن عمروس أنَّهُ لن يمكنَه القضاءُ على هذا التمرُّدِ إلا بالحيلةِ والخِداع، فاستطاعَ بواسطةِ أعوانِهِ من المولَّدين داخلَ طليطلةَ اغتيالَ قائدِ التمرُّدِ "عبيدة بن حميد ثورة"، وتمكَّنَ من دخولِ المدينةِ دونَ قتال، واطمأن إليه أهلُها واستكانوا، واختار أن يقيمَ هو وجندُهُ في قصرٍ منيفٍ بناهُ على ربوةٍ مرتفعةٍ خارجَ المدينةِ عندَ المدخلِ الرئيس لها، وشرعَ في تنفيذِ خطةٍ مُحكمةٍ كلَّفَهُ بها الأميرُ حكمُ الأول تضمنُ له إخضاعَ طليطلةَ لسلطانه إلى الأبد، حيثُ دَعا وليَّ عهدِ قرطبةَ الأميرَ عبدَ الرحمن بن الحكم إلى وليمةٍ ملكيةٍ فخمةٍ في قصرِهِ المُنيفِ، ووجَّهَ ابن عمروس الدعوةَ إلى قادةِ طليطلةَ وكبارِها من العلماءِ والأعيانِ وكلِّ من كانَ محلَّ شكٍّ في ولائه، واقتضتْ خطتُهُ أن يدخلَ المدعوونَ من البابِ الرئيس للقصرِ، ويخرجوا بعدَ الوليمةِ من بابٍ آخر، وأمرَ ابنُ عمروس أن تقرعَ الطبولَ أثناءَ الاحتفال. وكان موظفو القصرِ يستقبلونَ (المدعوين) ثم يرافقونهم عندَ الانصرافِ من البابِ الآخر، والذي كان ينتظرهم عنده مجموعةٌ من السيافين المهرة كُلِّفوا بضربِ كلِّ من يصل للخروجِ فُرادى أو جماعات والدفعِ بالقتلى إلى حفرةٍ عميقةٍ أعدَّها خصيصًا لهذا الغرضِ، لتُردَمَ عليهم بعدَ الانتهاءِ من المذبحة، ولم يفطنْ أحدٌ إلى ما يدورُ رغمَ صرخاتِ القتلى التي تلاشتْ وسطَ أصواتِ القرعِ العالي للطبولِ، وتمكَّنَ ابنُ عمروس بهذهِ الخطةِ الخبيثةِ في يومٍ واحدٍ من قتلِ أكثر من سبعمائة رجلٍ من قادةِ وأعيانِ وكبارِ القومِ في طليطلةَ سنة 181هـ (797م)، وعُرفت هذه الخطةُ الداميةُ في تاريخِ الأندلسِ باسمِ "حفرة عمروس". هدأ التمرُّدُ في طليطلةَ عدةَ سنوات، ولكن أحداث "حفرة عمروس" ظلَّتْ تعمقُ روحَ كراهيةِ أهلِ المدينةِ للسلطةِ المركزيةِ في قرطبة. وعندما تولَّى الأميرُ عبد الرحمن الثاني (الأوسط) الذي عُرف بصلابته وقسوةِ إداراته حكمَ قرطبةَ في سنة 206 هـ (822م) اختارَ أهلَ المدينةِ الميلَ قليلاً إلى الهدوءِ النسبي، وإن كانوا قد تحولوا إلى إشاعةِ الفوضى والخرابِ في المناطقِ والحقولِ المجاورةِ، وسلبِ المباني والمنازلِ بعدَ قتلِ سُكانِها من العرب والبربر. تمادتْ طليطلةُ في عدائها لسلطةِ قرطبةَ وأجمعَ المولَّدون والمستعربون والبربر في المدينةِ والنصارى في المنطقة كلِّها على اختيارِ زعيمِ التمرُّدِ الكاهنِ أولوخيو لمنصبِ رئيسِ أساقفةِ المدينةِ خلفًا للأسقف "وسترمير" الذي تُوفي. وكان -ومازال- من يتولَّى منصبَ رئيسِ أساقفةِ طليطلةَ في ذلكَ الوقتِ يرأسُ الكنيسةَ الكاثوليكيةَ في إسبانيا كلِّها، لم تعترفْ سلطاتُ قرطبةَ بتعيينِ أولوخيو في هذا المنصبِ ولم تباركه، إذ كانَ هذا حقًّا تقليديًّا لأميرِ قرطبةَ منذُ استيلاءِ المسلمينَ على طليطلة. هنا كانَ المحافظونَ المسيحيونَ الإسبان قد وصلوا إلى مرحلةِ الرَّفضِ المُطلقِ للمسلمينَ ولدولتهم، موقنينَ أنَّ حركةَ المدِّ الإسلامي والتعريبِ سوفَ تقضي لا محالةَ على ما تبقَّى للنصرانيةِ والقوميةِ الإسبانيةِ في شبهِ الجزيرةِ الأيبيرية، فلجؤوا بزعامةِ الرَّاهبِ المستعربِ "أولوخيو"، إلى المقاومةِ السلبيةِ من خلالِ سبِّ الدينِ الإسلامي ورسولِ الإسلامِ والمقدساتِ الإسلاميةِ في الأسواقِ العامَّةِ وأمامَ المساجدِ أثناءَ صلواتِ الجماعة، فلجأتْ حكومةُ قرطبةَ إلى توقيعِ عقوبةِ الإعدامِ على كلِّ مستعربٍ يسبُّ الإسلامَ ونبيَّ الإسلامِ، وأُعدِمَ الكثيرُ منهم ولكنَّ هذهِ الظاهرةَ لم تتوقفْ بل إنَّ شبابًا كثيرين من المستعربين في قرطبةَ وخارجها كانوا يسبُّون الإسلامَ ونبيَّ الإسلامِ طلبًا للموت والشهادة، ولقيتْ هذهِ الحركةُ صدًى هائلًا في طليطلة، وتحوَّلَ "أولوخيو" في نظرهم إلى بطلٍ قومي لمجردِ أنَّهُ تصدَّى للسلطاتِ المركزيةِ في قرطبة، وشملتْ الحركةُ المولّدين والمستعربين بل والبربر المسلمين في طليطلة كراهيةً في أمراءِ قرطبةَ وتمرُّدًا عليهم. نفدَ صبرُ الأميرِ محمد بن عبد الرحمن من كثرةِ ثوراتِ أهالي طليطلةَ وتمرُّدِهم ضدَّ السلطةِ المركزيةِ في قرطبةَ، فقادَ في سنة 244 هـ (صيف 858 م) حملةً عسكريةً هائلةً، وحاصرَ المدينةَ ومنعَ عنها المددَ خاصَّةً من نصارى الشمال، وكان يربطُ المدينةَ بالمنطقةِ المحيطةِ بها قنطرةٌ ضخمةٌ تعبرُ فوقَ نهرِ التاجه، فأصدرَ الأميرُ أوامره إلى مهندسي جيشِهِ بخلخلةِ القواعدِ التي تحملُ القنطرة. أثبتَ الأميرُ محمد أنَّه قائدٌ عسكريٌّ خبيثٌ بإتلافِهِ قواعدِ القنطرةِ إذ إنَّ جموعَ أهالي طليطلةَ لمَّا اشتدَّ عليهم الحصارُ وعزَّتْ الأقوات، وبدأ البعضُ منهم يموتُ جوعًا أمرَ الأميرُ قوَّادَهُ برفعِ الحصارِ عن المنطقةِ التي بها القنطرةُ فوقَ نهرِ التاجه، ولمَّا شعرَ الأهالي الجائعونَ بأنَّ طريقَ القنطرةِ أصبحَ مفتوحًا اندفعتْ جموعُهم الهائلةُ نحوَها، ولكنَّ القنطرةَ لم تتحملْ أثقالَ الناسِ فانهارتْ وسقطتْ بهم في النهرِ جَوعى لا حولَ لهم ولا قوَّة، فماتَ منهم خلقٌ كثيرٌ إمَّا غَرقى في مياهِ النهرِ أو تحتَ أنقاضِ القنطرة، وحتى الذين نجوا ونجحوا في الهربِ نحوَ المدينةِ قُتلوا بسهامِ القنَّاصةِ الذين كانوا ينتظرونهم على الجانبِ الآخر للنهر. وحلَّتْ بطليطلةَ الكارثةُ إذ إنَّ جيوشَ الأميرِ اقتحمتْ المدينةَ ودمَّرتْ كلَّ مظاهرِ الحياةِ والعُمرانِ فيها وأحرقتْ كلَّ شيء، ثمَّ أمن الأميرُ لمن تبقَّى من أهلِها في نفسِه دونَ مالِهِ وعتادِه، وأخذَ صغارَ وجهائها رهائنَ وأقامَ فيها قاعدةً عسكريةً تضمنُ الولاءَ والطاعةَ لأميرِ قرطبة، وبعدَ هذهِ الكارثةِ ظلَّتْ طليطلةُ ساكنةً مدةَ عشرِ سنواتٍ كاملة، وكان الأميرُ يجدِّدُ لها الأمانَ في كلِّ سنة. أصبحَ المولّدون يشكِّلونَ نسبةً كبيرةً من التركيبةِ السُّكانيةِ في الأندلسِ عامَّةً وطليطلةَ خاصةً، ورغمَ اعتناقهم الدين الإسلامي ظلوا يحتفظونَ في داخلهم بولائهم وحبِّهم للقوميةِ الإسبانية، وحافظوا على رفضهم لسياسةِ بني أُميَّة القائمةِ أساسًا على تفضيلِ ذوي الأصولِ العربيةِ من السكانِ، وتقديمهم على من عداهم، فلما وقعتْ ثورةٌ عارمةٌ ضدَّ الأمويين في جنوبِ الأندلس قبلَ وفاةِ الأميرِ محمد بقليل، وكانت هذه الثورةُ يقودُها أحدُ المولّدين ويُدعى "الجزيري" سنة 265 (879 م). ثم وقعتْ ثورةٌ عارمةٌ أُخرى بقيادةِ عمر بن حفصون شملتْ المولّدين والبربر، تجاوبَ أهلُ طليطلةَ على الفورِ مع هاتين الثورتين، وما إن تُوفي الأمير محمد بن عبد الرحمن وتولَّى الإمارةَ ابنُه "المنذر"، حتى خرجَ أهلُ طليطلةَ عن عهدِ الأمانِ ورفعوا رايةَ العصيانِ والتمرُّدِ مرةً أُخرى ضدَّ قرطبة، واندلعتْ الثوراتُ وحركاتُ الانفصالِ في معظمِ أقاليمِ الأندلس. وفي سنة 274 هـ (888 م) كانتْ طليطلةُ قد خرجتْ عن سلطةِ قرطبة، لكنَّها وقعتْ تحتَ نفوذِ موسى بن ذي النون أحدِ كبارِ زُعماءِ البربرِ من قبيلةِ "هوارة"، وقد بدأ بن ذي النون في تعميرِ المدينةِ وتشييدِ القلاع والحصون. مرَّتْ عدَّةُ سنواتٍ إلى أن تولى عبدُ الرحمن الثالث (الناصر) حكمَ الأندلس، فسارعَ لب بن طربيشة حاكمُ طليطلةَ وقتها إلى إعلانِ ولاءِ مدينته للأميرِ سعيًا للسلامِ والاستقرار، ولكنَّ أهلَّ المدينةِ ظلُّوا على روحِ العصيانِ والتمرُّدِ التي لم تكن خافيةً عن عبدِ الرحمن الناصر، فخطَّطَ منذُ سنةِ 318 هـ (930 م) لإخضاعِها حربًا وتمكَّنَ من ذلكَ سنةَ 320 هـ (932 م) واستولى على كلِّ مواقعِها الحصينة، فتحوَّلتْ طليطلةُ من العصيانِ المُطلقِ للمركزيةِ في قرطبةَ إلى الطاعةِ المُطلقةِ لها، حتى إنها اندمجت تمامًا في الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ في الأندلسِ في عصرِ عبدِ الرحمن الناصر. كما ظلَّ الأمرُ كذلكَ في أيامِ المنصورِ ابنِ أبي عامر الذي كان حكمُهُ الاستبداديُّ كفيلًا بسحقِ أيِّ حركةِ تمرُّدٍ أو عصيان. مرَّتْ الأيامُ إلى أن تولَّى عبدُ الرحمن ابنُ المنصورِ ابنُ أبي عامر الملقب بـ "شنجول" مقاليدَ الأمور، ثم حدثَ أن دخلتْ الأندلسُ كلُّها في عصرِ الخليفةِ هشامِ المؤيدِ في مرحلةٍ خطيرةٍ من الفوضى والاضطرابِ والفتنِ المُدمِّرةِ انتهتْ بسقوطِ الخلافةِ الأمويةِ في الأندلسِ، وقيامِ ما عُرفَ في تاريخِ الأندلسِ باسمِ "ممالك الطوائف". انتهزتْ طليطلةُ الفرصةَ وأعلنَ أهلُها الانفصالَ الكاملَ عن سلطةِ قرطبة، لتصبحَ واحدةً من أكبرِ ممالكِ الطوائف. وكان إسماعيلُ بنُ عبد الرحمن بن عامر بن ذي النون هو أوَّلُ ملوكِ الطوائفِ الذي أعلنَ الاستقلالَ عن السلطةِ المركزيةِ في قرطبة. وطوالَ مُدةِ حكمهِ التي لم تَطُلْ كثيرًا كانَ إسماعيلُ حريصًا على انتهاجِ سياسةِ العِداءِ الشديدِ لأيِّ محاولةٍ لتوحيدِ أقاليمِ الأندلسِ مرَّةً أُخرى وبصفةٍ خاصَّةٍ إذا كانتْ قاعدةُ هذهِ الوحدةِ ستكونُ خارجَ طليطلة. وكان إسماعيلُ منذُ توليهِ حكمَ طليطلةَ حريصًا على اتباعِ سياسةِ الحيادِ الكاملِ في الصراعاتِ التي دارتْ بينَ العربِ والبربر، ولم يُشاركْ صراعات حكامِ أشبيلية العرب، وحكامِ البربر بزعامةِ آل حمود، وقد أدَّتْ سياسةُ الحيادِ هذه إلى أن يعيشَ بمملكتهِ طليطلة في عزلةٍ شديدةٍ بينَ ممالكِ الطوائف. لم تَطُلْ سنواتُ حُكم إسماعيل بن ذي النون، إذ إنَّه تُوفي وهو في قمَّةِ عظمتهِ وقوتهِ تاركًا مملكةَ طليطلة قويةً مُزدهرةً سنة 435 هـ (1043 م)، وكان إسماعيلُ هو المؤسس الحقيقي لهذهِ المملكةِ وصانع مجدها وشهرتها. وتولى بعدَه المأمونُ يحيى بنُ إسماعيل بن ذي النون الذي ما إن فرغَ من سلسلةِ حروبهِ معَ جاريهِ ابنِ هودٍ ملكِ سرقسطة وابن الأفطسِ ملكِ بطليوس حتى انزوى داخلَ مملكتهِ مُتَّبعًا سياسةَ الحيادِ حيالَ ما يجري بينَ مسلمي الأندلسِ ونصارى الإسبان وحتى بينَ المسلمينَ بعضِهم البعض، كما التزمَ بسياسةٍ عسكريةٍ تهدفُ فقط إلى الدفاعِ عن حدودِ مملكتهِ ومصالحِها، ممَّا أدَّى إلى حدوثِ ازدهارٍ اقتصاديٍّ كبيرٍ ظهرتْ آثارُهُ بشدَّةٍ أوائلَ العقدِ السادسِ من القرنِ 11م. بعدَ فترةٍ قرَّرَ المأمونُ تفعيلَ "اتفاق الجماعة" واحتلالَ قرطبة، فتظاهرَ المُعتمدُ بنُ عباد حاكمُ إشبيليةَ أنهُ يحترمُ الاتفاقَ المعقودَ بينَ المأمونِ بنِ ذي النون وأبيهِ المعتضدِ بن عباد الذي يُعطي الحقَّ للمأمون في الاستيلاءِ على قرطبة، ولكنَّه كانَ في الواقعِ يصنعُ المستحيلَ لعدمِ تحقيقِ ذلكَ، وكانَ يطمعُ ويخطِّطُ في ضمِّ قرطبةَ لسلطته. كانَ المأمونُ يرى أنَّهُ بطولِ حِصارِهِ لمدينةِ قُرطبةَ سوفَ يجعلُ أهلَها يستسلمونَ عندَما تنفدُ أسلحتُهم ومؤنهم، حيثُ أخبرهُ جواسيسُهُ أنَّ المدينةَ غيرَ مؤهلَّةٍ لتحمُّلِ الحصارِ الطويل. وعلى خلافِ ما توقَّعَ فقد صمدتْ المدينةُ وطالَ صمودُها ودافعَ عنها أهلُها ببسالةٍ منقطعةِ النظير، وأصبحَ المأمونُ يواجهُ موقفًا غايةً في الصعوبةِ خصوصًا أنَّ المعتمدَ بنَ عباد لم يقدِّمْ له المساعدةَ العسكريَّةَ التي تعهَّدَ بها والدُهُ المعتضد، بل على العكسِ من ذلكَ استغاثَ عبدُ الملكِ بنِ جهور حاكمُ قرطبةَ بـ المعتمدِ بنِ عباد للتدخُّلِ لإنقاذِها. واضطر المأمونُ إلى الانسحابِ عائدًا إلى عاصمتِهِ طليطلةَ مقهورًا بعدَ وصولِ عددٍ كبيرٍ من فرسانِ ابنِ عباد لمساعدةِ قرطبةَ، وكانَ أكثرُ ما ساءَ المأمون هو خيانةُ بني عباد له وعدمُ تنفيذهم العهودَ التي قطعوها على أنفسهم بمساعدته. وفي سنة 461هـ (1073م) شنَّ المأمونُ بنُ ذي النون هجمةً عسكريةً عنيفةً على قرطبةَ بمساعدةِ حليفهِ الفونسو السادسِ ملكِ قشتاله لم تسفر عن نتيجةٍ سوى الحصولِ على الأسلابِ والغنائم، وبعدَ هذهِ الهزيمةِ الثانيةِ وجدَ المأمونُ بنُ ذي النون أنَّهُ لن يستطيعَ أن يستوليَ على قرطبةَ إلا بطريقِ التآمرِ والخديعةِ والدسيسةِ، فاتصلَ من فورهِ بعميلٍ وصديقٍ لهُ من رجالهِ اسمهُ الحكمُ بنُ عكاشة، وكانَ من رجالِ الوزيرِ الشهيرِ "ابن السقاء" وزيرِ آل جهور في قرطبة. طلبَ المأمونُ من ابنِ عكاشة أن يحيكَ مؤامرةً متقنةً تمكنهُ من تحقيقِ حلمهِ في امتلاكِ قرطبةَ وضمِّها إلى عرشِ طليطلةَ ليبدأَ منها خطةَ إعادةِ توحيدِ الأندلسِ ويُعيدَ أمجادَ عصرِ الخلافةِ الزَّاهرة. تمكَّن ابنُ عكاشة بدهائهِ النادرِ من بناءِ علاقاتٍ وثيقةٍ برجالاتِ ووجهاءِ قرطبةَ من الكارهين لحكمِ بني عباد، كما استخدم سلاحَ المالِ والهدايا النفيسةِ لشراءِ ولاءِ حاميةِ قرطبةَ وقواعدِها، وتمكَّنَ بمساعدةِ رجالهِ من التَّسلُّلِ إلى المدينةِ ليلًا ودخولِ القصرِ وقتلِ سراجِ الدولة - المظفر ابن المعتمد بن عباد من زوجته اعتمادٍ الرميكية - واحتزاز رأسهِ والطوافِ بها في شوارعِ قرطبةَ لبثِّ الرُّعبِ في قلوبِ الأهالي، ثمَّ أرسلَها إلى المأمونِ في طليطلة، وبعدَ أن تأكَّدَ ابنُ عكاشة من أن قرطبةَ أصبحتْ في قبضتهِ دخلَ المسجدَ الجامعَ واعتلى المنبرَ وخاطبَ الناسَ داعيًا لهم أن يُعلنوا الولاءَ للمأمونِ بن ذي النون، فتجاوبَ الناسُ لهذهِ الدعوةِ إمَّا خوفًا من المأمونِ وإمَّا كُرهًا في آل عباد. وفي يناير 1075م دخلَ المأمونُ ابنُ ذي النون قرطبةَ معَ حاشيتهِ ورجالهِ وشعرَ المأمونُ، وهو يخترقُ شوارعَ المدينةِ متوجهًا إلى القصرِ، أنَّ الطريقَ أصبحتْ سهلةً أمامَه لتحقيقِ أمنيتهِ القديمةِ في توحيدِ الأندلسِ كما كانتْ في عصرِ الخلافة. لم تكنْ اللغةُ العربيةُ هي اللغةُ الأمُ بالنسبةِ لأهلِ المدينةِ فقد تعلموها على كِبرٍ بحكمِ استمرارِ اختلاطِهم واضطرارهم إلى تعلُّمها حيثُ إنها لغةَ الحكامِ لتسهيلِ أمورِ حياتهم، وعليه فقد كانتْ مكانةُ الشعرِ والأدبِ العربي في طليطلةَ محدودةً على الرغمِ من التقدمِ والازدهارِ فيها؛ إذ لم يكن تراثُ الحضارةِ العربية عميقَ الجذورِ في ضمائرهم، ومن ناحيةٍ أُخرى لم تكن روابطهم السياسيةُ بالعنصرِ العربي متجذرةً في عقولهم، وكثيرًا ما كانوا يعبِّرون عن عدمِ رضاهم أو قبولهم لسيادةِ العنصرِ العربي، ولهذهِ الأسباب لم تقدم طليطلةُ شاعرًا عظيمًا مثلَ ابنِ زيدون أو المعتمد بن عباد. وبالرغمِ ممَّا تقدم، استطاعَ المأمونُ بهداياه الثمينة وأمواله الوفيرة أن يجتذبَ إلى بلاطه عددًا من الشعراءِ الذين كانوا في هذا العصرِ يتنقلونَ بين قصورِ ملوكِ الطوائفِ جريًا وراءَ العطايا والهبات. وفي مجالِ العلومِ منحَ المأمونُ العلماءَ والباحثين في طليطلةَ الحريةَ في البحثِ والدراسةِ ودعمهَم برعايته المادية، فازدهرتْ إلى حدٍّ كبيرٍ دراساتُ الطبِّ وعلمِ النباتِ حتى أن طليطلةَ أصبحت الوجهةَ التي يطلبُها العلماءُ في سائرِ دولِ ملوكِ الطوائف. وفي مجالٍ آخرَ من مجالاتِ الحضارةِ العلميةِ في طليطلة كانَ المأمونُ بن ذي النون مهتمًّا إلى حدٍّ كبيرٍ بالعلومِ البحتةِ، وبعد فترةٍ من توليته نجحَ في أن يحولَ عاصمتَه إلى مركزٍ مهمٍ لدراساتِ وأبحاثِ الفلك والرياضيات. يميلُ المؤرخون إلى أن المأمونَ كان قادرًا على تحقيقِ حلمه باستعادةِ الخلافةِ في الأندلس لولا وفاته بعدَ دخولِ قرطبةَ بستَّةِ أشهرٍ فقط إذ إنه تُوفي في يونيو 1075م (467هـ)، ويُقالُ إنهُ ماتَ مسمومًا. ماتَ المأمونُ وتركَ فراغًا سياسيًّا هائلًا، ودخلتْ مملكةُ طليطلة مرحلةً خطيرةً من التفكُّكِ واكتنفتْ خلافتهُ حالةٌ من الغموضِ الشديدِ بل والاضطراب، فقد خلفهُ حفيدُه يحيى بن إسماعيل وتلقب بـ "القادر". وقد أجمعَ المؤرخون على أنهُ بعدَ وفاةِ المأمون في قرطبة حُملَ جُثمانهُ في نفسِ يومِ وفاتهِ إلى طليطلةَ حيثُ استقبله عندَ مشارفها حفيدُهُ يحيى القادر بصفتهِ الملك الجديد لمملكةِ طليطلة، ثم أُجريتْ مراسمُ تتويجهِ ملكًا في اليوم التالي. حين ارتقى يحيى القادر عرشَ طليطلة – وهو الذي نشأ بين نساءِ بلاطِ جدهِ وجواريه يدبرنَ له شؤونهُ ويشكِّلنَ شخصيتهُ وأفكاره – سُرعانَ ما سلَّمَ قيادةَ أمورهِ إلى رجالِ الطبقةِ الأرستقراطية في المملكة يلبي طلباتهم ويحقق لهم طموحاتهم المتطرفة، فارتكبَ حماقاتٍ وأخطاءَ كبيرةً في الأيام الأولى لتوليه العرش، ومنها تدبير مؤامرةِ قتلِ الوزير المُحنك ابن الحديدي الذي كان بمثابةِ العمودِ الفقري الذي يرتكز عليه استقرارُ طليطلة وقوتها وتماسكها منذُ الحقبةِ المبكِّرة لحكم المأمون. ومن ناحيةٍ أُخرى بدأ ملوكُ الشمالِ النصارى اقتطاعَ ما تصلُ إليهِ أيديهم من أراضي المملكةِ المتهاويةِ، فحاصرَ سانشو راميرز مدينةَ قونقة الصناعية المهمة، وكادَ أن يستولي عليها لولا أن أهلَ المدينة قدموا مبلغًا كبيرًا جدًّا من المالِ بجانب الهدايا النفيسة إلى سانشو لافتداء مدينتهم، فانصرف عنها، وفي نفسِ وقت حصار ملكِ أراجون لمدينة قونقة، كان المقتدرُ بن هود ملك سرقسطة - الذي يحمل قدرًا هائلًا من العداء والحقد لمملكةِ طليطلة وآل ذي النون – يتأهَّبُ لغزوِ أراضي طليطلةَ المتاخمةِ لمملكته، واستولى على مدينتي مليقة وشنتبرية، وهنا قرَّرَ القادرُ اللجوءَ إلى ما تبقَّى عنده من قوة جيشهِ للدفاعِ عن سمعته وحدود بلادهِ، ودفعَ بقواته للدفاع عن مدنهِ الثلاث قونقة التي يحاصرها سانشو، ومليقة وشنتبرية اللتان استولى عليهما ابن هود، ولأنَّ الملكين كانا يدركان أن طليطلة مازالت تحتفظُ بشيءٍ من قوتها التي كانت لها في عهد المأمون، قام سانشو بفكِّ الحصار عن قونقة في مقابل ما حصل عليه من أموالٍ وهدايا، أمَّا ابن هود فقد أمر جنوده بسلبِ ونهب كل شيء في المدينتين، وغادرهما وهو محمَّلٌ بالأسلابِ والغنائمِ والسبايا وتركهما خرابًا وعاد إلى سرقسطة. وبالرغمِ من انسحابِ سانشو وابن هود بجيشهما فإنَّ القادرَ بن ذي النون لم يستعد هيبةَ المُلك، واقتنعَ رعاياهُ أنهُ ملكٌ ضعيفٌ غيرُ قادرٍ على حمايةِ حدودِ بلاده، وهذا جعله هو نفسه يتأكد بأنه لا يستطيعُ الاستمرارَ في حكمِ طليطلة في مواجهةِ مُعارضةٍ داخليةٍ عنيفةٍ وخصومةٍ خارجيةٍ مع جيرانهِ تزداد عنفًا يومًا بعدَ يوم، ووجدَ أنَّه لم يعد أمامَه مَفر من أن يتجهَ إلى الفونسو السادس ملكِ قشتالة حليفِ جدهِ وصديقهِ يلتمسُ منهُ العونَ والحماية، وكان المأمونُ يؤدي الجزيةَ السنويةَ إلى الفونسو في مقابل مساعدتهِ وحمايتهِ من أيِّ اعتداءٍ من جيرانه، وحذا القادرُ حذوَ جده، وفي المقابلِ اشتطَّ الفونسو في مطالبهِ من المال حتى كادتْ خزائنُ القادر أن تنضب. كانَ المجتمعُ الطُليطلي منذُ عهدِ المأمون يضمُّ جماعةً كبيرةً من المولّدين وهم المسلمون من أصولٍ إسبانيَّةٍ نصرانيةٍ ورغمَ اندماجهم في الأوساطِ الإسلاميةِ يميلونَ إلى قوميتهم الإسبانيةِ، وكانَ لديهم دائمًا الاستعدادُ للتعاونِ معَ نصارى الشمالِ حتى منذُ عصري الإمارةِ والخلافة. ومن ناحيةٍ أُخرى كانَ المجتمعُ الطُليطلي يشملُ جماعةً محافظةً متشدِّدةً في مواجهةِ المولّدين المتساهلين في التعاملِ مع نصارى الشمال، وهذه الجماعةُ كانتْ تضمُّ طبقةَ الفُقهاءِ ورجالِ الدينِ والعرب، وكانت هذه الجماعةُ ترفضُ سياسةَ القادرِ وترى أن ضعفَهُ واستعدادَهُ الدائمِ للتنازلِ للإسبانِ عن أجزاءٍ من أراضي طليطلة، ودفعَ الأموالِ والجزيةِ لهم سيؤديان حتمًا إلى دفعِ المسلمين في الأندلسِ إلى الهاوية. ودخلَ المتساهلونَ والمتشدّدونَ في صراعٍ سياسي واجتماعي عنيفٍ كشفَ عن هشاشةِ الوحدةِ الوطنيةِ في مملكةِ طُليطلةَ التي كان قد أرسى المأمونُ ابنُ ذي النون قواعدَها وأذابَ الخلافات العصبيةَ والمذهبيةَ والطائفيةَ بينها وأظهرَ وحدةَ الأمة. فقد القادرُ سيطرتَهُ على طليطلةَ وقامتْ الثورةُ الشعبيةُ ضدَّهُ واستنجدَ بالفونسو السادس، ولكن لم تصل النجدةُ من الفونسو، واصطدمَ القادرُ مع كبارِ رجالِ دولته، وثارتْ طليطلةُ كلُّها ووجدَ ملكُها الضعيفُ أنَّهُ أصبحَ في خطرٍ شديدٍ فاتَّخذَ القرارَ الذي رأى المؤرخونَ أنَّه يتناسبُ مع تركيبتهِ الشخصيةِ وهو الهربُ مع عائلتهِ خارجَ طليطلة، وكانَ ذلكَ هو أسهلُ تصرفٍ يمكنُ أن يقومَ به غيرَ آبهٍ بمصيرِ رعاياه، والفوضى التي اجتاحتْ طليطلةَ لغيابِ السلطةِ وحدوثِ انفلاتٍ أمني خطيرٍ وانتشارِ أعمالِ النهبِ والسلبِ والقتلِ والاغتصاب، وفعلًا بادرَ بالهربِ من المدينة، التي كانتْ قد اضطرمتْ بالثورةِ عليه. من ناحيةٍ أُخرى كانَ كبراءُ ووجهاءُ طليطلةَ من مُعارضي الملكِ يبحثونَ عن حاكمٍ قوي يتولَّى أمرهم من غيرِ أفرادِ عائلةِ بني ذي النون، فقرروا إرسالَ وفدٍ للتفاوضِ معَ المتوكلِ عمر بن الأفطس حاكمِ بطليوس ليتولى أمرَ المملكةِ ويملأَ الفراغَ الذي سبَّبهُ هروبُ القادرِ وتركهُ السفينةَ لتغرقَ بمن فيها، وافقَ المتوكلُ على مضضٍ لعلمهِ بالمشاكلِ التي تغرقُ فيها طليطلةُ وطمع جيرانها فيها وبصفةٍ خاصةٍ الفونسو السادس ملك قشتالة، وما لبثَ أن انتقلَ إلى عاصمتهِ الجديدةِ ودخلَ قصرَ الملكِ في طليطلة في شهر يونيو سنة 473هـ (1080م) وقضى في طليطلةَ زهاءَ عشرة أشهرٍ من يونيو 1080م إلى مطلع أبريل 1081 دونَ أن يفعلَ أيَّ شيءٍ لانقاذها، وانشغلَ في متعهِ الحسّيةِ مع الخمرِ والغواني والسبايا. استنجدَ القادرُ من منفاهُ في وبذة بألفونسو السادس، حتى سارَ معه إلى طليطلة، وكانَ الفونسو وهو في طريقهِ إلى غزوِ المدينةِ قد دمّرَ كلَّ شيءٍ في طريقهِ، وخرّبَ الضواحي وأحرقها والقادرُ لا يجرؤ على مجردِ الكلام، وقبلَ أن يقتربَ الفونسو السادس على رأسِ جيشهِ من أسوارِ طليطلة واقتحامها فرَّ المتوكلُ عائدًا إلى بطليوس مكتفيًا بما حملَ من أسلابٍ من قصرِ المأمون، حاصرَ الفونسو المدينة تمهيدًا لاقتحامها وبرفقتهِ القادرُ بن ذي النون ولمناعةِ أسوارِ طليطلة وقوةِ أبراجها الدفاعية طالتْ مدةُ الحصارِ حولِ المدينةِ واشتدَّ بشكلٍ متزايدٍ وقاومَ أهلَها ببسالةٍ حتى نفدَ من عندهم الغذاءُ والسلاحُ ففتحوا أبوابَ المدينة. دخلَ القادرُ ابنُ ذي النون على أسنَّةِ رماحِ الجيشِ النصراني الغازي وعلى جثثِ رعاياه المسلمين وجلسَ مرةً أُخرى على عرشها المُهتزِّ الواهي في شهرِ مايو سنة 1081م، ونكَّلَ جنودُ الفونسو السادس بأهلِ المدينةِ بالقتلِ والسلبِ والنهب، وكانت كلُّ الأحداثِ تنذرُ باقترابِ وقوعِ الكارثةِ بعدَ أن كانَ الفونسو قد انتهى من تدبيرِ خطتهِ الكبرى بالاستيلاءِ على مملكةِ طُليطلة وإعادتها إلى حوزةِ إسبانيا النصرانية.
كانَ غزو طُليطلة وطردُ المتوكلِ ابن الافطس وإعادةُ القادرِ ابن ذي النون إلى عرشها قد تمَّ طبقًا لاتفاقيةِ "قونقة" التي أبرمها القادرُ معَ الفونسو السادس، وكانتْ كلُّ بنودِها مهينةً للمسلمين إذ كانَ القادرُ يصبو إلى إستعادةِ عرشهِ مهما كانتْ النتائج، فقد سيطرَ الفونسو على طليطلة كلِّها، وأجلسَ القادرَ على عرشها الواهي ولكنَّهُ كانَ هو الحاكمُ الفعلي، والقادرُ لا يجرؤ على تدبيرِ أمرٍ من أمورِ المملكةِ إلا بعد استئذانِ الفونسو الذي حصلَ بموجبِ اتفاقيةِ قونقة على ثلاثةِ حصونٍ عسكريةٍ مهمةٍ هي "سورية" وقورية" و"قناليش" التي أصبحت فيما بعد شوكةً في ظهرِ المسلمين، كما حصلَ الفونسو على أموالِ وثرواتِ بني ذي النون وجرَّد القادرَ من أملاكهِ، ثمَّ اتهمهُ بأنَّهُ أخفى الكثيرَ من ثرواتِ بني ذي النون عنه. كان الفونسو السادسُ يرى أن عودةَ القادرِ إلى عرشهِ إجراءٌ مؤقتٌ وأنَّ استردادَ طُليطلةَ أصبحَ أمرًا واقعًا في المستقبلِ القريب، ولذلكَ بعثَ إلى البابا في روما يطلبُ منهُ إعادةَ جعلِ طليطلة مقرَّ رئيسِ أساقفةِ إسبانيا كما كانتْ من قبل بعدَ أن كانتْ افتقدتها منذُ دخولِ المسلمين إلى الأندلس. ولتحقيقِ هذا الهدفِ كانَ الفونسو السادس يتحركُ لاستنفاد قدراتِ ملوكِ الطوائفِ المسلمين، والعملِ على إشعالِ الصراعاتِ المستمرةِ بينهم، كما عمدَ إلى الضغطِ الدائمِ على القادرِ ابنِ ذي النون الذي كانَ يعلمُ أنَّ الفونسو يسلِّطُ دائمًا على رأسهِ سيفَ الإبعادِ عن عرشهِ، فيعطيه المالَ والذهبَ حتى استنفد طاقاتِ وإمكاناتِ رعاياه، وبنهمٍ أخذَ الملكُ الإسباني يطلبُ المزيد، فإذا امتنعَ القادرُ بادرَ الفونسو إلى شنِّ غارةٍ عسكريةٍ مدمرةٍ على أراضي طليطلة وأحوازها يخربها ويقتلعُ زروعها ويمحو كلَّ أثرٍ للعمران فيها، حتى عندما يحينُ وقتَ الاستيلاءِ عليها تكونُ قد خلتْ من سكانها المسلمين الذين كانوا بعدَ كلِّ غارةٍ يفرُّونَ بحثًا عن مأوى في أيِّ أرض أُخرى. بقلقٍ وخوفٍ كانَ معظمُ ملوكِ الطوائفِ يرقبونَ ما يحدثُ في طليطلة، وسارعوا إلى التحالفِ معَ الفونسو على أن يدفعوا له الجزيةَ السنويةَ بالقدرِ الذي يحدِّدهُ هو من الذَّهب، وقد شذَّ عنهم جميعًا المتوكلُ عُمر ملك بطليوس. وبذلكَ أصبحَ الفونسو على يقينٍ من أنَّ الأمورَ جميعَها قد أصبحتْ ممهدةً لتنفيذِ مشروعهِ الكبير، فلم يتوقفْ عن شنِّ غزواتهِ المدمرةِ على أراضي طليطلة حتى تخربتْ سهولُها وجفَّتْ ربوعُها النضرةُ وأفلستْ مراكزها الصناعيةُ، وكانَ الملكُ يمعنُ في غاراتهِ حتى يتمَّ تجريدُ المملكةِ العظيمةِ من مواردها، واستمرتْ هذهِ الغاراتُ منذُ دخولِ القادرِ طليطلةَ سنة 474هـ (مايو 1081م) ودامتْ أربع سنواتٍ كاملة، وكانَ يدبرها الفونسو بمساعدةِ وتواطؤِ المستعربينَ والمولّدينَ من أهلِ طليطلةَ الموالينَ لهُ، وأطلقَ عليهم المؤرخونَ الإسبانُ اسمَ "المدجنون" أو الــ Mudéjar، وكانَ الفونسو - كما روى المؤرخونَ العرب- يجتاحُ بقواتهِ أراضيَ طليطلة من كلِّ اتجاه، ويبيدُ المزارعَ والحقول، ويقطعُ الأشجارَ والحدائق، ويخرِّبُ الديارَ ويسبي النساءَ والبناتَ، والقادرُ بن ذي النون وباقي ملوكِ الطوائفِ ينظرونَ ولا يجرؤونَ على عملِ أيِّ شيءٍ أو ردِّ عدوانه، وكانَ موقفُهم يثيرُ الألمَ والحسرة. ومن ناحيةٍ أُخرى لم يستطعْ أهلُ طليطلةَ من المعارضين ذوي الأصولِ العربيةِ أن يتعايشو معَ الوضعِ المُخزي المتردي الذي أوصلهم إليهِ القادرُ بسياستهِ الخرقاء المتخاذلةِ مع القشتاليين، والقهر الذي مارسه ضدَّ رعاياه وإنهاكهم بجمعِ الأموالِ منهم قسرًا حتى أفلسهم، مما أججَ من نزعةِ الثورةِ ضده بعدَ أن غمرهم اليأسُ من انصلاحِ حاله.. وفي تلكَ الأثناء حدثتْ أكثرُ من محاولةٍ فاشلةٍ لاغتيالهِ والتخلصِ منه، فلم يبقَ أمامَ الناسِ إلا إعلانُ العصيانِ والثورةِ عليه. كانَ موقفُ ملوكِ الطوائفِ ممَّا يحدثُ في طليطلةَ يثيرُ الألمَ والحسرة، فقد وقعَ المعتمدُ بن عباد أقواهم وأعظمهم اتفاقَ تحالفٍ معَ الفونسو تعهَّدَ فيهِ المعتمدُ أن لا يتعرَّضَ للملكِ الفونسو السادس فيما يفعلُهُ في طليطلةَ ويتركهُ وشأنهُ ينفِّذُ خططَهُ الراميةَ إلى احتلالها. وكانَ المعتمدُ في الوقتِ نفسهِ مُنهمكًا في محاربةِ حاكمِ غُرناطةَ عبدِ الله بن بُلقين بن باديس، ومن ناحيتهِ كانَ المقتدرُ ابنُ هودٍ حاكمُ سرقسطةَ القويةِ المتاخمةِ لطليطلةَ من الشمالِ والشرقِ يدافعُ عن حدودِ مملكتهِ ضدَّ هجماتِ ملكِ أرجون وأمراءِ برشلونةَ النصارى، أمَّا دولُ الطوائفِ في شرقِ الأندلسِ وجنوبها فقد كانتْ بعيدةً نسبيًّا ولا تستطيعُ تقديمَ العونِ إلى طليطلةَ بشكلٍ فعَّالٍ ومؤثر، الأمرُ الذي جعلَ الملكَ الفونسو يمعنُ في غاراتهِ المدمِّرةِ على طليطلةَ حتى ظهرتْ بوادرُ سقوطِها الأخير. ومن جانبه، وجدَ القادرُ أنَّ دسائسَ ومؤامراتِ معارضي حكمهِ ونظامهِ قد ازدادتْ واشتدت، وحاصرتهُ الضغوطُ من أعدائهِ في الدَّاخلِ والخَارجِ، وأقرَّ بضعفهِ وعجزهِ وقلةِ حيلتهِ إزاءَ ما يحدثُ لمملكته، وأرادَ أن ينهيَ وضعهُ المُخزي، فبعثَ برسالةٍ إلى الفونسو السادس يعرضُ عليهِ أن ينتقلَ من فورهِ ليقيمَ في بلنسيةَ ويحكمَها ويتركَ طليطلةَ ويتخلى عنها لملكِ قشتالة، فرحَّبَ الفونسو بهذا العرضِ وشرعَ من فورهِ في تجميعِ الجنودِ والرجالِ وتزويدهِ بالسلاحِ والعتادِ، وجهزَ جيشهُ لشنِّ هجومٍ صاعقٍ مفاجئ على طليطلةَ فلا يُعطي لرجالها فرصةً للدفاعِ عنها. كانتْ طليطلةُ إحدى قواعدِ المسلمين الكبرى في الأندلسِ وتعدُّ حجرَ الأساسِ بالنسبةِ لممالكِ المسلمين، وانهيارُ هذا الحجرِ يعدُ بدايةَ انهيارِ البناءِ بأكملهِ الذي بدأ يلوحُ في الأفق. وقد رَثاها ابنُ العسَّالِ عام 475م بقصيدةٍ مُزلزلةٍ وجَّهها إلى أهلهِ في الأندلسِ ليستفيقوا من سباتهم قائلًا: يا أهلَ الأندلسِ شدوا رَواحلَكم فما المُقام بها إلا من الغلط الثوبُ ينسلُ من أطرافهِ وأرى ثوبَ الجزيرةِ منسولاً من الوسط من جاورَ الشرَ لا يأمنُ بوائقه كيفَ الحياة معَ الحيّاتِ في سفط وفي إحدى ليالي خريفِ سنة 477هـ (1084م) اقتربَ الفونسو على رأسِ فرقةٍ من فرسانه، ونزلَ بالمنيةِ المسورةِ الواقعةِ على مُنحنى نهرِ التاجه، وهي استراحةٌ ملكيةٌ كانَ المأمونُ ابنُ ذي النون قد أنشأها وبنى بداخلِها القصورَ الفخمةَ وأنشأ فيها البساتينَ والحدائق، وجعلَ منها ما يشبهُ الجنَّةَ يلجأ إليها للهوِ والراحة، وذكرها ابنُ بسامٍ بالتفصيلِ في كتابهِ "الذَّخيرة في محاسنِ أهل الجزيرة" وقال إنَّ المأمونَ كانَ يباهي بها جنَّةَ عدن. إلا أن الفونسو جعلَ من حدائق قصرِ المأمونِ مقرًّا لخيالته. وفي اليومِ الذي دخلَ فيه الفونسو قصرَ المأمونِ في طليطلةَ كانَ "القادر" آخرُ ملوكِ بني ذي النون وآخرُ من حكمَ هذه المملكةَ من المسلمين، يجلسُ في مكانٍ ما بالمدينةِ يعالجُ اسطرلابًا فلكيًّا بجهلٍ وحماقةٍ يحاولُ أن يعرفَ من خطوطهِ الوقتَ المناسبَ لهُ لمغادرةِ طليطلةَ وأحسنَ الطرقِ التي يسلُكُها في رحلتهِ نحوَ الشرقِ إلى بلنسية، وبالفعلِ نجحَ في الوصولِ إلى بلنسيةَ وحكمِها بمساندةِ جنودِ الفونسو السادس وهناكَ ثارَ أهلُها عليهِ وحزوا رأسَهُ وطيفَ برأسهِ في المدينةِ في 23 رمضان 485هــ. كان اقترابُ الفونسو من طليطلةَ بهذا الشكلِ يعبِّرُ عن أنَّهُ قد اتخذَ قرارًا لا رجعةَ فيه بانهاءِ مقاومةِ المدينةِ التي كانَ المتشددونَ فيها يصرُّونَ على مواصلةِ الصُّمودِ ويعملونَ على إطالةِ أمدِ المقاومةِ حتى يصلهم أيُّ مددٍ أو أن يرجعَ الفونسو عنها عندما تنفدُ مؤونتهُ وعتادهُ أو أن يصيبَ جنودَهُ المللُ من طولِ الحصار. كادتْ أن تتحقَّقَ أمنيةُ رجالِ طليطلةَ المدافعينَ عنها، وكادَ الفونسو يرجعُ بجيشهِ عن محاصرةِ المدينةِ بسببِ شدَّةِ البردِ وهطولِ الأمطارِ في شتاء سنة 1085م، فتقطَّعتْ الطرقُ بينَهُ وبينَ قشتالة، وانقطعتْ عن جيشهِ المؤنُ والأقواتُ، ولولا أنَّ ملوكَ الطوائفِ أمدوهُ بالغذاءِ لهلكَ هو وجيشه، فعادَ وشدَّدَ الحصارَ بينَما كانَ أهلُ طليطلةَ يعانونَ من الجوعِ وهطولِ الأمطارِ بغزارة. ولما يئسَ المدافعونَ عن المدينةِ ولم يعد لديهم أيُّ بارقةِ أملٍ في حصولهم على أيِّ مدد. قرَّروا تشكيلَ وفدٍ من قادتهم وزعمائهم إلى الفونسو لمحاولةِ التفاوضِ معه، وكانَ الفونسو يقيمُ في قصرِ المأمون، فقابلهم وحاشيتهُ بفتورٍ وعدمِ اهتمامٍ ورفضوا إدخالَهم إلى الملكِ لمقابلته، واستقبلهم بدلًا منهُ أمينُ سرِّهِ المستعربُ وأدخلهم إليه فأهانهم ورفضَ مفاوضتهم وصرَفهم مَطرودين. ظلَّ حصارُ القشتاليين حولَ طليطلةَ حوالي تسعةَ أشهرٍ وبلغتْ الشدةُ والجوعُ بالمحصورين أقصاهما، وارتفعَ صوتُ العامَّةِ الجائعين، ولم يجدْ زعماءُ المدينةِ وشيوخُها أمامَهم سوى عرضِ الاستسلامِ بعدَ صمودٍ بُطولي طالَ أمده. وكانَ عرضُ الاستسلامِ بعدَ مقابلةِ الزُّعماءِ لالفونسو السادس بثلاثةِ أيام. وتمَّ فتحُ أبوابِ المدينةِ له ولجنودهِ يوم الأربعاء 6 مايو سنة 1085م الموافق 7 صفر سنة 478هـ، وهكذا سقطتْ حاضرةٌ إسلاميةٌ كُبرى في الأندلس، وخرجتْ من حَوزةِ المسلمينَ إلى الأبدِ وارتدتْ إلى النصرانيةِ بعدَ أن حكمها المسلمونَ ثلاثمائة وسبعينَ عامًا وتحوَّلت إلى عاصمةٍ لمملكةِ قشتالة النصرانية. وبعدَ أن اطمأنَ الفونسو السادس إلى استسلامِ طليطلةَ استولى على جميعِ الأراضي التابعةِ لها، وهي منطقةٌ شاسعةٌ جدًّا كانَ عليها حوالي ثمانينَ مدينةً عدا القرى والضياع. وكانَ المعتمدُ بنُ عباد، قد استولى من طليطلةَ على الأراضي الواقعةِ إلى الجنوبِ من نهر التاجة. أجمعَ المؤرخونَ على أنَّهُ بمجرَّدِ استسلامِ طليطلةَ لألفونسو ودخولها في حَوزةِ النصارى في إسبانيا وحلولِ نكبةٍ عُظمى ليسَ للأندلسِ الإسلاميةِ فقط ولكن أيضًا للعالمِ الإسلامي كله، تسابقَ ملوكُ الطوائفِ بذُلٍّ ومهانةٍ لا حدودَ لهما في إرسالِ البعثاتِ والسفاراتِ مُحملةً بالأموالِ والهدايا الملكيةِ النفيسةِ إلى الملكِ الفونسو الذي انتقلَ ليقيمَ في قصرِ المأمونِ في طليطلةَ يقدمون له التهاني متعهدينَ بدفعِ الجزيةِ السنويةِ له خوفًا منهُ على عروشهم، رغمَ أنهم كانوا يعلمونَ بأنَّ الفونسو عدوٌ لدودٌ للمسلمين، وأنهُ يخطِّطُ للقضاءِ عليهم الواحد بعدَ الآخر. وقد صاغَ المستعربُ سسند وزيرُ الفونسو شروطَ تسليمِ المدينةِ، ولكي يُطمئنَ الفونسو مسلمي طليطلةَ عيَّنَ المستعربَ سسند حاكمًا على المدينةِ لعلاقاتهِ الوثيقةِ بالمسلمين منذَ سنواتٍ طويلة، وكان معروفًا عنهُ أنهُ يحترمُ شريعتَهم وآدابَهم وعلومَهم وتقاليدَهم، وكانَ ينادي بالتسامحِ والمرونةِ في التعاملِ معَ المسلمين، وقيلَ إنَّهُ هو الذي دفعَ الفونسو إلى احترامِ شروطِ الاستسلام. نجحَ سسند كحاكمٍ للمدينةِ أن يُدخلَ الطمأنينةَ على من تبقَّى من أهلِ طليطلةَ فأمنهم على دينهم ومقدَّساتهم، واستمالَ كثيرًا من العامةِ حتى اعتنقوا النصرانية. أثبتتْ الأحداثُ التاليةُ أنَّ الفونسو لم يكن صادقًا في تسامحه، إذ إنهُ في الشهرِ التالي لدخولهِ طليطلةَ غادرها إلى ليون وقد دبَّرَ أمرًا معَ زوجتهِ كونستانز الفرنسية وكبيرِ الرُّهبان برناردو، إذ إنهُ بمجرَّدِ مُغادرته قرَّرتْ زوجتُهُ وكبيرُ الرُّهبان تحويلَ المسجدِ الجامعِ إلى كاتدرائيةٍ بالمخالفةِ لشروطِ التسليم. وكانَ الرُّهبانُ المتشددونَ في بلاطِ الفونسو يكرهونَ وجودَ مسجدٍ في المدينةِ بهذهِ الضخامةِ والفخامةِ بينَما لا توجدُ كنيسةٌ واحدةٌ تليقُ بعرشِ إمبراطورِ إسبانيا، وتجمعُ رهبانَ البلاطِ فيما راحتْ زوجةُ الفونسو ومعَها كبيرُ الرَّهابنةِ يُصدرانِ الأوامرَ لهدمِ محرابِ المسجدِ ورفعِ الجرسِ على مئذنته، وكانَ آخرُ من تَلى القرآنَ وأمَّ الصلاةَ بالمسلمينَ في مسجدِ طليطلةَ الجامعِ العالمُ الفقيهً محمدٌ بنُ عيسى بن فرج التميمي من أهلِ طليطلةَ ومقيمُ الشعائر بالمسجد، وكانَ إمامًا ذا دينٍ وفضلٍ عالمًا بأصولِ القراءاتِ والتلاوة، ضابطًا لها عارفًا لمعانيها، وكانتْ هذه الصلاةُ الأخيرة في شهر ربيع الآخر سنة 478هـ (يوليو 1085م) حين انتهى إلى الأبدِ عهدُ الاسلامِ في جامعِ طليطلة، وسرعانَ ما تحوَّلتْ المدينةُ إلى النصرانيةِ وسطَ حالةٍ منَ الكمدِ والحزنِ التي انتابتْ مسلمي الأندلس. محمود يوسف خضر كاتب فلسطيني يُقيم في أبوظبي