... مازج بين الأصالة والمعاصرة فكان له الفضل في إنشاء مبنى دار الكتب الجديدة والمعهد العالي للسينما، والمؤسسة العامة لفنون المسرح والموسيقى، ومشروع الصوت والضوء، وقاد الحملة الدولية مع منظمة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة ومعبدي رمسي "أبو سنبل" وفيليه وأنشأ أكاديمية الفنون الجميلة وما تفرع عنها من المعاهد الفنية، والمعهد القومي العالي للموسيقى/ الكونسرفتوار ومعهد الباليه، والمعهد العالي للفنون المسرحية ... إنه بحق المؤسس الأول للبنية التحتية للثقافة المصرية في العصر الحديث. ولقد دأب في محرابه وهو عبارة عن غرفة في بيته في المعادي تحيط بجدرانها مكتبة تعانق السقف وتتناثر حوله صور تجمعه مع أندريه مالرو وعبد الناصر وعبد الحكيم عامر وكارل أورف وأبرز مدراء اليونسكو وخلف مكتبه معلقاً على الحائط صوراً من بعض مقامات الحريري في إطار ذهبي وأمامه "أورج"، وظل لفترة متقدمة من حياته يحاول إتقان عزف الموسيقى، ولطالما استمعنا في ذلك المحراب إلى "كارمينا بورانا" لكارل أورف ونحن ننفث دخان السيجار، وعندما تتصاعد النغمات ويعلو قرع الصاجات، يرتجف منبهراً بجمال المقطوعة، وكأنه يسمعها للمرة الأولى.
انهمك طوال حياته في كتابة موسوعته الخالدة "العين تسمع والأذن ترى" فغطى أغلبية فنون العالم القديم والمعاصر واسترجع بقلمه التراث العربي والعالمي وترجم عشرات الكتب ومن أهمها "مسخ الكائنات" و"فن الهوى" لأوفيد.
رحيل الأخ الحبيب ثروت عكاشه من عالمنا، إلى عالم لم نختبره بعد، يدمع العين ويُدمي القلب، وكم يلفني الأسى كلما تذكرت رقته ورقيه في حياته وفي رسائله والتي دائماً يبدأها بقوله "لكم أسعدني وأسعد أسرتي استقبالكم في القاهرة حقاً لم نمكث طويلاً لانشغالكم بالبرنامج المرسوم ولكن العبرة بحرارة المشاعر ودفء الصداقة".
هناك دائماً ركنٌ شامخٌ يحول دون السقوط، شخصٌ أنيس يحول دون الاكتئاب، إنسانٌ جليلٌ يدفعك إلى الأمام، علمٌ موسوعيٌ يصعب اختزاله في كلمات، ويصعب عرض منجزه الثقافي، إنه بحد ذاته حركة تنويرية. رحل الأب والمعلم، رحل ثروت عكاشه.
أيها الصديق الحبيب، لقد كنت محباً للحياة شغوفاً بها، مقدراً للمرأة، عاشقاً للجمال... قدرك أن تحمل هموم الثقافة ما يزيد عن نصف قرن.. ورسالة الثقافة بكل آمالها وآلامها، قدرك أن تتحمل الأحزان وقدرنا أن نحيا لنعيش ألم فقدانك. لقد خسرت مصر اليوم فارساً ساهم في نحت تاريخها المعاصر بنبل وشرف.. ورحيلك الفاجع يعزز لدينا حب العزلة وجلال الاعتبار.. ولا يبدد غيوم الحزن ومرارة الأسى التي خلفتها برحيلك سوى قول المهيمن "إنا لله وإنا إليه راجعون"
محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي