رغم مرور ستين عام تقريبـًا على نفي بيرم التونسي من مصر إلى تونس، لم أتمكـَّن من طرده من خيالي خلال رحلتي على متن الطائرة المتوجهة إلى هذا البلد بدعوة من القائمين على “مهرجان المدينة” .
عند الهبوط في مطار تونس – قرطاج الدولي كان في استقبالنا مندوب من “المهرجان”، وشرطي تسلـَّم جواز سفري…
… كان اسمه مكتوباً على لوحة نحاسية صغيرة معلقة على صدر قميصه، سألته: أنت محمد؟ فأجابني بتلقائية: “وِيْ”، أي “نعم” بالفرنسية. فلم أتمالك نفسي من الضحك، مما أوقعني في موقف محرج مع مضيفي، فقصصت عليهم ما كان من أمر بيرم التونسي عندما قال:
سألته اسمك محمد قال محمد “وي” | وقلت عندك بطاطس قال لي “نو..سيه فيني” | |
وقلت عندك فاصوليا قال لي “توبا كوي” | شوفتوش بقى بعد ده طباخ “تريه جنتي” |
صباح اليوم التالي لوصولنا إلى العاصمة التونسية، حيث نزلنا في فندق “الهناء”، الواقع في قلب المدينة، اصطحبنا الصديق الشاعر آدم فتحي في رحلة بين حواري وأزقة المدينة العتيقة، حيث تأكد لي خلال التجوال أنني فقدت سبعة وأربعين عاماً من حياتي، فبعض الأزقة مرتفع والآخر منخفض، وأنفاسي اللاهثة تلحق بي. مررنا بسوق “الشوَّاشية” حيث تتركز صناعة الشاشية من غزل الصوف، وهي غطاء شعبي يوضع على الرأس وبه حزمة من الخيوط السوداء المتدلية وكأنها ترمز إلى الرأس المليء بالشعر الأسود قبل أن يغزوه المشيب أو قبل مرحلة “التعرية”، كما هي جزء من الزي الرمزي الذي يعتزّ به التونسي، قبل أن تكون لباساً نفعياً للوقاية من البرد، ولونها أحمر في الغالب، ومنها ما ينتمي إلى الأسود أو الرمادي. واللافت للنظر اقتصار لبس الشاشية عادة على الطبقة الشعبية في المجتمع، وعلى بعض كبار السن، وهكذا أصبح الرأس عارياً في تونس. في المدينة العتيقة دخلنا “سوق النحاسين”، وفيه تكاد لا تسمع سوى موسيقى دقّات الحرفيين بأزاميلهم على الأواني النحاسية، لتخرج من تحت أيديهم تحف مشغولة بمهارة فائقة، بعضها مزخرف بأوراق نباتية محوَّرة حول آيات قرآنية، والآخر برسومات لبعض الحيوانات والطيور محاطة بأشكال هندسية. فتملكتني الحيرة في جمال الأشكال وتنوعها. لا زلنا في أزقة المدينة العتيقة، التي يسِّميها التونسيون “البْلاد العَرْبي”، وقد لفحت أنوفنا رائحة التوابل، فإذا بنا في “سوق العطّارين”. الرائحة نَّفاذة، ولكنك تستطيع أن تميِّز بسهولة تلك التي تتقدم البقية، إنها رائحة الفلفل الأحمر حار المذاق، التي تجعلك تدافع عن نفسك بالعطس يمنة ويسرة. خرجنا من المكان تاركين تلك الروائح خلفنا، فصدمتنا رائحة من نوع آخر، رائحة التاريخ العتيق، والزمن أمامنا وخلفنا 1300عام، إنه الجامع الأعظم الذي حمل اسم الشجرة المباركة: “الزيتونة”. يقع هذا المسجد الذي بناه عبيد الله بن الحبحاب في العام 116هـ، في قلب المدينة العتيقة، تحيط به الأسواق القديمة من كل جانب، وأقربها إليه سوق الأقمشة والمنسوجات والعطور. وكلّما ابتعدنا في السير كانت نوعية البضاعة تتراجع، إلى أن نصل إلى الأبعد وهو “سوق الجلود” المميَّز بالرائحة السيئة لموجوداته. وغير بعيد عنه تصادفك دكاكين العطور والبخور حيث تعود الروائح الطيبة لتداعب أنفك من جديد. وهذه سمة الأسواق في المدن الإسلامية العتيقة.
بني جامع الزيتونة بعد أن استكملت المساجد جلّ منافعها، بإدخال عناصر جديدة في العصر الأموي لم تكن موجودة في عهد الرسول (ص)، كالمحراب والمنبر والمئذنة ومقصورة الإمام والميضأة والصهاريج والأسبلة. ولذلك ضَّم الجامع كل ما ذكرناه، حتى أنه أصبح مركزاً دينياً وثقافياً واجتماعياً يؤدي وظائف متنوعة فضلاً عن الصلاة، كالتدريس والقضاء. وهو عبارة عن متحف للفنون القديمة، فالأعمدة المستخدمة كثيراً، منها ما هو روماني ومنها ما هو بيزنطي، ولها تيجان مليئة بزخارف زهرة الأكانتوس. وتوجد بعض قطع الرخام وقد حُفرت عليها زخارف نباتية، فيما ضمَّ البعض الآخر طيوراً وحيوانات وصوراً آدمية. وهذا يوضح إلى أي مدى تسامح الدين الإسلامي الحنيف مع النحت والرسوم والزخارف.
وهاهو جامع الزيتونة لازال قائماً إلى الآن وتيجان الأعمدة مليئة بالنحت الذي يدحض مزاعم المتطرفين الذين يذهبون إلى تحريم الصور والنحت وكل ما يتعلق بها من فنون وتصاوير. ويبدو أن الإسلام بعظمته قد استوعب الحضارات السابقة وفنونها، فقد دمج الحرفيون المسلمون الأوائل ذلك الجمال في بوتقة الفنون الإسلامية. وهذا يؤكد أن التقاليد والفنون الأفريقية المحلية لم تُمْحَ بمجرد مجيء الفتح الإسلامي، ذلك أن العرب أبدوا تسامحاً كبيراً تجاه حضارات الشعوب والبلدان التي فتحوها، بل لقد تعلَّموا منها أيضاً وحافظوا على آثارها. وقبة محراب جامع الزيتونة تحفة زخرفية عصية على الوصف، فالزخارف النباتية تملأ الفراغ، والأشكال الهندسية لا تترك فضاء، والكل في انسجام تام. وباستطاعتك تتبُّع تطور الخطوط من خلال جامع الزيتونة، فالكتابة على قبة المحراب فيها صرامة وزوايا مستقيمة، في حين نجد الخطوط في الكتابة، التي تمَّت على قبة البهو بعد بناء الجامع بمئة وثلاثين عاماً، أكثر ليناً وإنسيابية، حيث أصبحت بعض الحروف تنتهي بشكل مزهر.
ويبدو أنه كلما ازداد العالم الإسلامي انغلاقاً وتحجّراً فكرياً، كلما اتجه في فنونه إلى التجريد والأشكال الهندسية، وكلما كان منفتحاً وقوياً ومليئاً بالتيارات الفكرية والحيوية كلما اتجهت الفنون إلى الأشكال الطبيعية مع بعض التحوير، واتجه الخط العربي إلى التزهير والمشخصاتي التي تنتهي أحرفه برسوم لوجوه آدمية، فيما اتجهت الخطوط إلى الليونة والحرية في التصرف وإعطاء فرص للابتكار في شكل الحروف.ولمن يريد دراسة تاريخ العمارة التونسية، فليتوجه إلى جامع الزيتونة، فهو منذ إنشائه إلى الآن عرضة لإضافات الحكام في كل عصر من العصور. فقد أضيفت عدة أبواب للمسجد من ستة مداخل خلال فترة الخراسانيين (القرنان الخامس والسادس الهجري/ الحادي عشر والثاني عشر الميلادي) وهذه الأبواب تختلف عن سابقاتها فهي أقل اتساعاً وارتفاعاً.
أما الحفصيون، الذين حكموا خلال ثلاثة قرون ونصف القرن (من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي إلى أواسط القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي)، فقد رمَّموا بيت الصلاة وبنوا مئذنة وشيّدوا ميضأة السلطان ابن عمرو عثمان. وخلال فترة الحكم العثماني تمّ ترميم الجامع، وفي عهد الحسينيين تمّ بناء المنارة الجديدة (1036هـ / 1654م)، ثم أزيلت المنارة الحفصية (1312هـ / 1894م).
مشهد للرواق وفيه تظهر الأعمدة
ومن أجمل الأماكن التي يحلو النظر إليها: منطقة المحراب، وقد كسيت بمجموعة زخارف جصِّية مشغولة بالحفر الدقيق، وفيها تختلف كل بلاطة عن الأخرى، وتشكل في مجملها لوحة رائعة من الحسن والجمال. ويحيط بدرج المنبر جداران مستطيلان من الخشب المحفور، عليهما زخارف عبارة عن أشكال هندسية ونباتات محورة بطريقة الحفر الغائر المخرم، تدلّ على مهارة الفنان المسلم وقدرته على تطويع الخشب بين يديه. وهي من روائع الفنون الإسلامية.
صورة للمحراب الرائع
عدنا إلى الفندق الذي يسمونه في تونس “نُزُلاً”، لنرتاح قليلاً، ولنسترد وعينا بعد أن تغّير شيء جوهري في الذاكرة الفنية، وبعد أن أسكرتنا حلاوة جامع الزيتونة. وتوجهنا لتناول الإفطار في مطعم يحرص على تقديم المأكولات الشعبية التونسية ويدعى “الوليمة”، الذي تعود ملكيته إلى حفيدة آخر “البايات”، وهو أشبه بقاعة اجتماعات كبيرة، جدرانها مغطاة بالمرايا والزخارف، والندلاء في حالة حركة دائمة. وفيه تشعر بالسعادة والانتعاش إذا حالفك الحظ ووجدت مقعداً. فتناولنا “البريك”، وهي خليط من البيض واللحم المفروم أو الدجاج أو التونة مع الخضار داخل رقائق من الدقيق المقلي، و”الكسكسي” الشهير بمذاقه الطيب و… و”الكفتاجي”. وكانت الحلوى من “المقروض”، وهي مشهورة في رمضان ويقال إن أصولها في “القيروان”. ومن السهل أن تكتشف المذاق الأندلسي في الطعام التونسي، فالكثير من الأندلسيين قد هاجروا إلى تونس في العام (1017هـ / 1606م) عندما طُردوا من إسبانيا وبنوا فيها قرى أندلسية، أشهرها “تستور”.
فالعنصر الأندلسي، إلى جانب التركي أثرا ثقافياً وحضارياً في الحياة التونسية، وانصهرا في بوتقتها ليؤلّفا الشعب التونسي حالياً بعاداته وتقاليده. وقد كان تأثير الأندلسيين قوياً في الحضارة التونسية مما زادها إشراقاً، خاصة في الصناعة والتجارة ونمط العيش وأنواع المأكل والغلال. ويقول الشيخ الطاهر بن عاشور في دراسته عن مصير الأندلسيين، المنشورة في الجمعية الخلدونية سنة 1930… “فأما تونس فنزلها منهم أهل الصنائع والفنون، فأهل الصنائع الدقيقة سكنوا المدينة، وهم أهل الثروة، وبنوا لأنفسهم “حومة” تعرف بـ “زقاق الأندلس” قرب جامع القصر، وأما أهل الصنائع الأخرى وبعض الفلاحين من أهل الحواضر فسكنوا ربض “باب السويقة” وهم أول من بنى هناك خارج السور، فبنوا الحومة المعروفة بـ “حومة الأندلس”.
في أزقة المدينة العتيقة تتنفس الهواء الأندلسي، وخاصة في سوق الشوَّاشية حيث تعود بك آلة الزمن إلى الوراء، إلى زمان الوصل في الأندلس. في أحد الأزقة في المدينة العتيقة يبهرك جامع مبني على الطريقة العثمانية وهو لحمودة باشا بن مراد باي الأول، يلاصق زاوية سيدي أحمد بن عروس.
ويشتمل صحن الجامع على تربة صاحبه. ومآذن الجوامع في تونس مبنية على شكل مربع، وهي ترمز إلى المذهب المالكي الغالب في هذه البلاد، وإذا كانت المآذن مثمّنة فهي ترمز للمذهب الحنفي المعروف بقلة عدد أتباعه.
والثقافة السائدة في تونس هي الثقافة الإسلامية، وفيها يتمّ التعامل مع الإسلام والعروبة بصفتهما وجهان لعملة واحدة. وتقوم رؤية أهل البلاد للإسلام على القضاء والقدر والإيمان بالأولياء الصالحين والطرق الدينية المنتشرة في تونس. فيندر أن تمر بمنطقة دون أن يكون بها ضريح لأحد أولياء الله، وعادة تكون الأضرحة في أماكن عالية كالربوة وهي ترمز إلى قدرة الوالي على حماية المدينة مادياً ومعنوياً. ويوجد مثل شهير يقول: “من لا شيخ له فالشيطان شيخه”.
بدأت حركات التصوف في تونس خلال القرنين الهجريين السادس والسابع، وكان لهذه الحركة تأثير كبير طيلة القرون الماضية حتى اليوم، ولقد أقام محي الدين بن عربي (638هـ) في تونس وألف كتابه الشهير “إنشاء الدوائر”.
ويذكر أن ابن سبعين المُرسي (669هـ) قد أقام في تونس، وبعد رحيله منها بقي على صلة بأهلها ومريديه فيها، كما أقام فيها أيضاً الشيخ /أبوالحسن على الششتري الأندلسي، الذي توجه بعدها إلى مصر، وكان يتبعه في أسفاره ما يزيد على أربعمائة من المريدين يتعلمون منه ويلبون طلباته. وهكذا توغلت الحركات الصوفية في المجتمع التونسي.
أما حلقات الذكر والتواشيح الدينية فهي شائعة في زوايا عديدة، حتى أن بعض الأغنيات وخاصة للفنان لطفي بوشناق تشعر السامع بمدى تغلغل المفاهيم الصوفية مع النغمات وما تجلبه من صفاء للقلب وجلاء للضمير.
ونصحنا أحد الأصدقاء بأن يكون عشاءنا في ذلك اليوم: “اللبلابي”، وكان الجو بارداً وقد تجاوزت الساعة الثانية صباحاً. سألته عن مكونات هذه الآكلة، فلم “أطمئن” إلى شرحه، لكني وافقت على “المغامرة” على مضض. أعطانا البائع شرائح من الخبز الإفرنجي لنقطعها بأنفسنا إلى أجزاء صغيرة ونضعها في الصحون، وفوق الخبز سكب البائع “مَرَقة” من الحمّص المغلي بماء الكمّون، بعد أن أفرغ محتويات بيضتين شبه نيئتين في كل صحن، ثم أضاف كمية من لحم التونا وكثيراً من الفلفل الأحمر الحار، وبعض أنواع البهارات التي لا أعرفها.
وكما تمَّ إرشادي، قمت بخلط هذه المكوّنات بواسطة ملعقتين، ولم أدرِ كيف ومن أين بدأت، لكني لم أنتبه إلاَّ إلى أنني قد أتيت على محتويات الصحن بكاملها. والحق أقول: لو أن تونس لا يوجد بها غير “اللبلابي” لاستحقَّت أن تزورها لأجله.