على الطريق الممهد عبر الغابة كانت البحيرة يغطيها الضباب..
ولا يقطع سكونها سوى صوت انزلاق البط في مياهها وإرتطام أجنحة العصافير بالهواء خلال طيرانها فكانت الحياة تبدو أكثر دهشة، كنت مأخوذاً بهذا المشهد الساحر وأنا أتجول على ضفاف البحيرة والشقراوات الممشوقات يعربدن من أمامي ومن ورائي تكاد صدورهن تسابقهن خلال ركضهن وأشعة الشمس تضيء وجوههن وكنت أبطئ من خطواتي لأتلصص على بعض النسوة المستلقيات لتعريض أجسادهن للشمس، وطيور السنونو التي تصدح في الغابة مستمتعة بالشمس التي نادراً ما تظهر في هذا الطقس البارد، وجلست في شرفة الفندق أنفث الدخان وأبعد الفراشات عن سلة الفواكه المحاطة بالثلج المبشور، حينذاك ارتفع صوت أجش أعادني إلى سيارة الأجرة التي أقلتنا من المطار، هاقد وصلنا إلى الفندق، فاستيقظت من أحلامي تبعت خطواته حيث دلفنا إلى باب زجاجي صغير يؤدي إلى بهو يستخدم لاستقبال النزلاء وإنهاء معاملاتهم ويستخدم كـ “بار” أيضاً وتسلمت مفتاح غرفتي التي وصلنا إليها عبر النزول بضعة سلالم وهي تقع في ممر طويل وكأنه لا نهاية لـه والغرف أشبه بسكن الطلبه الجامعيين، وسارعت بفتح زجاج النافذة وكان لا يفتح منه إلا حوالي بضعة سنتيمترات لتمرير الهواء إلى الغرفة كي لا يختنق النزيل وكان مستوى رأسي على مستوى الشارع ولا تستطيع أن ترى من زجاج النافذة سوى السيقان في حالة ذهاب وإياب وقوائم الكلاب المصاحبة لأصحابها وإذا أردت أن ترى وجوه أصحاب السيقان عليك أن تستلقي على ظهرك موجهاً نظرك إلى الأعلى بزاوية قائمة عبر النافذة فيمكنك في هذه الحالة مشاهدة جزء من الوجه مع خلفية من السماء التي يقطعها بناية في الطرف الآخر من الفندق فرضينا بما كتب الله لنا في البلاد الإسكندنافية حيث أنني ضيف عليهم لإلقاء عدة محاضرات حول نشأة الفنون الإسلامية وتطورها، ومنيت النفس بأنه ربما تعوضني وجوه الحسان عن قُبح المكان.
وكوبنهاجن باللغة المحلية تعني المرفأ التجاري وهي من أقدم عواصم أوروبا حيث أسسها بيشوب ابسالون سنة 1167ميلادية، وأمام قصر ملكة الدنمارك يتم تغيير الحرس الملكي يومياً الساعة 12 ظهراً حيث يخرج الحرس من جوار قصر روزنبرج وهم يرتدون الزي التقليدي وهو عبارة عن بناطيل زرقاء فاتحة بخطين بيض على الجانب وسترات زرقاء داكنة وغطاء للرأس أسود من الفرو.وفي المساء استقلينا القطار من كوبنهاجن إلى مدينة مالمو في السويد ولم يستغرق الطريق سوى خمسون دقيقة ولم يسألنا أحد من الشرطة عن تأشيرة دخول أو ما شابه ذلك من إثبات لهويتنا مرَّ القطار عبر أحد أطول الأنفاق في العالم قبل أن يصل إلى جسر طويل يسمى “اريسند” شيِّد عام 2000موكانت الطريقة الوحيدة للوصول من كوبنهاجن إلى السويد هي السفن بكل أشكالها وذلك قبل إنشاء الجسر. تجولنا في المدينة التي تعتبر الثالثة على مستوى السويد والعاصمة الثقافية لها وعاصمة الجنوب أيضاً وتشعر بسهولة انتقالك من أجواء دولة إلى دولة أخرى، فالباصات لونها أخضر في حين باصات كوبنهاجن لونها أصفر والفن المعماري للبنايات مختلف ولفت إنتباهنا مطعم يقع في قبو في إحدى البيوت التي شُيِّدت في القرن السابع عشر وجلسنا فيه واستمتعنا بتناول سمك السلمون الذي تشتهر به البلاد الاسكندنافية ولم يفتنا الطبق الأكثر شهرة من الحلويات في هذه البلاد وهو عبارة عن توت أحمر مجمد ويوضع في صحن ويُصب عليه سائل الشوكولا البيضاء الساخن، وضللنا الطريق خلال عودتنا إلى محطة القطارات للعودة إلى كوبنهاجن، فسألنا مجموعة من الفتيات كن يسرن معاً، فلم يلتفتوا إلينا ظناً منهم أننا نغازلهم، ولم يعيرونا إنتباهاً إلا عندما تبينوا أننا نخاطبهم بالإنجليزية فتوقفوا واعتذروا لنا عن لا مبالاتهم للوهلة الأولى ودلونا إلى مبتغانا بأدب جم ويعكس هذا الموقف وملابس النساء في البلاد الاسكندنافية بأن الأسُر هنا محافظة وتصوُّر الشرق عن نساء تلك البلاد من حيث الحرية الجنسية والإنفلات الأخلاقي، لا يقابله سوى تصور بعض الرجال في الغرب أيضاً بأن الشرق مليء بالجواري وليالي ألف ليلة وليلة والبساط السحري.
صباح اليوم التالي قمنا بجولة سياحية على متن مركب سياحي مكشوف استغرقت حوالي الساعة وهي تسير في الممرات المائية داخل مدينة كوبنهاجن ويبهرك المشهد حيث البنايات تحيط بك من كل الجوانب وكأنها تسير في شارع من الاسفلت ولقد ذكرتني بالجندول في ممرات فينسيا المائية وتمر المراكب عبر المعالم الأساسية للمدينة لنشاهد دار الأوبرا الجديدة والتي تبرع ببنائها الملياردير .. و قدمها هدية لشعب الدنمارك وهي على الطراز المعماري الحديث وتثير جدلاً شديداً ما بين المؤيدين لهذا الطراز والمعارضين لـه ولقد مررنا على رمز الدنمارك وهو تمثال صغير لعروس البحر على صخرة تبعد عن الشاطئ بخطوتين فقط وهي أسطورة قديمة أعاد إنتاجها كاتب الدنمارك الأشهر هانز كريستيان اندرسن الذي سيصادف عام 2005 الذكرى السنوية المائتين لعيد ميلاده وهو كاتب مشهور لروايات الأطفال في العالم، وتذهب الأسطورة إلى أن أحد الأمراء قد سقط في البحر خلال مطاردة الأشرار له، فأنقذته عروس البحر وأعادته إلى الشاطئ وسرعان ما عاد إلى حياته الأولى، أما هي فلقد غير الحب حياتها ولم تستطع فراقه، وخرجت إلى الشاطئ تنتظر مجيئه ولا زالت تنتظره إلى الآن
.يبلغ عدد سكان الدنمارك خمسة ملايين نسمه ويقطن منهم مليون نسمه في كوبنهاجن ويوجد بها مترو أنفاق حديث أنجز منذ عامين فقط وهو يسير أتوماتيكياً بدون سائق وهناك حاجز زجاجي ما بين رصيف المحطة وسكة الحديد التي يسير عليها القطار وتفتح البوابة الزجاجية في وقت متزامن مع فتح أبواب القطار المخصصة لصعود ونزول الركاب، وفي كل مترو جزء مخصص لوضع الدراجات بداخله حيث أن أغلب تحركات الدنماركيين من خلال الدراجات ومواقف الدراجات أكثر اتساعاً وازدحاماً من مواقف السيارات، ومن الطرائف في هذا الشأن أن وزيرة الثقافة أستأذنت في إحدى المناسبات وأشارت إلى أنه ينبغي عليها المغادرة مبكراً حيث أن عودتها إلى منزلها بالدراجة ستستغرق وقتاً طويلاً.ولقد ذهبنا في اليوم الثالث إلى مدينة هلسنفور وهي تبعد بالسيارة حوالي خمسون دقيقة عن كوبنهاجن وزرنا فيها قلعة هاملت ويعتقد شكسبير بأن الأحداث المأساوية لمسرحية هاملت قد تمت في تلك القلعة وانتقلنا منها إلى مدينة هلسنبوي في السويد وانتقلنا من خلال العبَّارة ولم تستغرق الرحلة سوى خمسة عشر دقيقة. وتنطلق سفينة كل ربع ساعة ولقد أذهلني منظر الشاحنات والسيارات التي خرجت من بطن العبَّارة لدى وقوفها فهي كالساحر الذي يخلع قبعته ليُخرج منها الأرنب تلو الأخر.ولم أستطع مقاومة المرارة التي بدأت أشعر بها عندما تذكرت أن الدنمارك في سنة 1945 كانوا مجموعة من المزارعين الفقراء الذين يعمل كل أفراد العائلة من أجل كسب قوت يومهم، أما اليوم فالدخل القومي للدولة 167.2مليار دولار والدخل القومي للفرد 31.100 دولار ولتقريب الأرقام إلى الأذهان فإن الدخل القومي لمصر 295.2 مليار دولار والدخل القومي للفرد المصري 4.000 دولار ولا زال الأوربيون يعملون من أجل أوطانهم ونحن نغني لها وربما عليها.