التنمية بمفهومها العام هي الجهود المنظمة المبذولة ضمن خطة محددة بهدف استغلال الإمكانات المتاحة، البشرية أولاً والبيئية ثانياً، بقصد تحقيق مستويات أعلى للمعيشة بمستوياتها كافة، كالتعليم والصحة.. الخ، وصولاً إلى الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية
ولقد شاع استخدام كلمة تنمية “DEVELOPMENT” عقب الحرب العالمية الثانية، وقُسِّم العالم إلى دول متخلفة“UNDER COUNTRIES”، وأخرى في سبيلها إلى التطور “DEVELOPING”، وثالثة متقدمة“DEVELOPED” ، ومعيار التقسيم هو ما وصلت إليه هذه الدول من تطور من حيث البنيان الاقتصادي ومستوى الحياة المعيشية.
ومن المتعذر الفصل بين كل من التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، ولذلك ظهر اصطلاح التنمية الشاملة. فالاستثمار في الجوانب الاقتصادية كشق الطرق وإنشاء شبكات الكهرباء، لا بد أن يتكامل بالاستثمار في الجوانب الاجتماعية، كمحو الأمية، وهذا ما يفتقده الإنسان العربي، ذلك أن رؤوس الأموال العربية اتجهت نحو الاستثمار في الجوانب الاقتصادية، وأغفلت إلى حد ما بناء الإنسان العربي، لذا نجد بعض خريجي الجامعات، وأحياناً أساتذة جامعيين، ما زالوا حتى اليوم مقتنعين بصاحب الخطوة وبمفعول السحر والشعوذة في إحداث أثر في حياتهم، متجاوزين العلاقة الرابطة بين الأسباب والنتائج، وقافزين على أبسط قواعد المنطق المتمثلة في “مقدمات صحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة”.
وعليه فإننا نجد أنفسنا مع النملة التي تُمجِّد قيمة العمل من خلال ادخارها طعاماً في الصيف لأيام الشتاء، وليس مع صاحب الخطوة أو الوالي الذي لم تستفد منه البشرية بشيء.إن الأنساق الثقافية المتعددة التي تزدهر في أجزاء من عالمنا العربي ينبغي مواجهتها بالتخطيط العلمي حتى تنهار وتظهر أنساق أخرى جديدة تكون لائقة بالقرن الحادي والعشرين.
فالتحضر بمعناه الحقيقي لا يكتفي بكيفية إمساك الشوكة والسكين عند تناول الطعام، أو في طريقة المشي، فهذه شكليات لها أهميتها، إلا أنَّ جوهر التحضر يكمن في الأنماط الحضرية، حياةً ونظاماً وسلوكاً منبثقاً من ذهنية قادرة على التكيف مع مستجدات الحياة ومتغيراتها وقادرة على استيعاب ما يدور في العالم.
فالحدث المعين الذي يقع في المجتمع في وقت محدد، يخلق ديناميكية تتفاعل مع غيرها من العوامل لإحداث التغير الاجتماعي نحو الأعلى، إلى السمو والرقي، وباستطاعة الإنسان تفعيل بعض العوالم وتحييد بعض آخر. فالعامل البيئي، ويشمل جميع مكونات البيئة الطبيعية التي يعيش فيها الإنسان، المناخ والتربة والتضاريس، أمكن تغييره في بعض الدول العربية لإحداث التطوير المطلوب. إن تشجير مدينة أبو ظبي مثلاً، ورعاية صاحب السمو رئيس دولة الإمارات – حفظه الله ورعاه – لها، ورصف الطرق وبناء المدارس… إلخ، أدّت إلى حدوث تغيرات ديموغرافية، انعكست بشكل إيجابي في سلوك أبناء البلاد وحياتهم.
وتلعب العوالم الاقتصادية والتكنولوجية والفكرية والأيديولوجية والسكانية والتعليم، دوراً كبيراً في التنمية، فالتطور التكنولوجي يعدّ ركيزة أساسية لأية عملية تنموية، ويؤدي في الوقت نفسه إلى استحداث أنماط جديدة في العمل. وتواجه الدول النامية ومن بينها بعض الدول العربية، تحدّيات متعددة عند مواءمة التكنولوجيا المستوردة مع البيئة المحلية، مما يوجب التعامل مع أساليب ونظم فنية وتكنولوجية نشأت في بلاد أخرى مختلفة. لذا، فإن إساءة استخدام التكنولوجيا عندنا، مرجعها عدم تنمية الإنسان العربي بالقدر اللازم لاستخدام تلك التكنولوجيا، والأمثلة على ذلك كثيرة، كأن يمتلك بعض الأشخاص عدداً من الهواتف النقالة يفوق عدد أبنائه.ولتنمية قدرات الإنسان العربي على استخدام التكنولوجيا ينبغي تحقيق الآتي:1. تحديد الاحتياجات التكنولوجية على ضوء متطلبات خطة التنمية القومية.2. تحديد الطاقة الاستيعابية للتكنولوجيا المتطورة الحالية والمحتملة.3. توفير شروط نجاح استخدام التكنولوجيا، بإدخال الحاسوب في المدارس الابتدائية مثلاً.
إن ارتباط الإنسان العربي بمجموعة المحرّمات والمحظورات والقوالب الفكرية الجامدة والنظم الاجتماعية، بكل إشارات المرور الحمراء فيها، تجعلنا نطرح بكل جدّية إشكالية حاجتنا إلى تنمية مخيلتنا وممارسة حقنا الطبيعي في التخيُّل. فالتحرر الذهني من النظام الاجتماعي “SOCIAL ORGANIZATION” سيحدث أثره في تنمية الثقافة، سواء أكان ذلك في الفن أم العلم أن الصناعة، كما أنه قد يؤدي إلى استحداث أشكال وقواعد جديدة للنظام الاجتماعي السائد.
والإنسان لا يتقبل الجديد بسرعة، فعندما ظهرت السيارات قاومها رجال المال في حي “وول ستريت” وامتنعوا عن شراء أسهم شركاتها، لأنهم لم يستطيعوا تصوُّر وجود شيء يمكنه أن يقهر الحصان ويتفوّق عليه في السرعة. وكذلك الأمر في الميادين الاجتماعية، فلقد تطلَّب الأمر عشرات السنين لكي يوافق أصحاب المؤسسات الصناعية على تحديد ساعات العمل.
ولقد انطلقت تلك التغييرات الصناعية والاجتماعية المشار إليها، من خيال إنسان تحرَّر من قواعد الواقع ونُظُمه، وتصوَّر نظاماً آخر ورؤى أخرى لواقع جديد، بثّها عبر اللغة، وانتقلت إلى العالم فأحدثت التغيير.
كان الخيال الإنساني في أوج تألقه إبان العصر الإغريقي، فترك لنا تراثاً عظيماً ومنبعاً لا ينضب للشعراء والكتاب والفنانين، فمسرحيات “جان راسين”، تستمد أحداثها جميعها من الأساطير الإغريقية، بدءاً من مأساة “طيبة” وصولاً إلى “أتالي” مروراً “بفيدرا”.
وكثير من الرسامين استمدوا أفكار رسوماتهم من الميثولوجيا الإغريقية فجسَّد فرنشكو جويا التهام “كرونوس” لأبنائه، وأبدع بارثولو موس سبرانجر في تصوير “مينرافا”، كما أضاء رمبرانت خلال لوحة “خطف برو سيربينا”، وكذلك رافائيل في تجسيده لـ “أبولّو رومارسياس”، ودومينكيتو خلال رسمه لوحة “يانا وأكتايون”.
ولقد كانت خيالات الإغريق إلهاماً متدفقاً للموسيقيين أيضاً – فألَّف ريتشارد شتراوس أوبرا “هيلينا” المصرية، التي تتناول الآثار المترتبة على حرب طروادة وعفو منيلاس عن هيلينا، وتناول أوفنباخ مأساة “أورفيوس” في الجحيم من خلال أوبرا، وأبدع فرانزليست في سيمفونية “بروميثيوس”، وكذلك كارل أورف في أوبرا “أوديب ملكاً”.
وارتبط الأدب الدرامي، الذي استوحى موضوعاته من الصراع الأبدي بين آمال البشر والزمن المميت، بالأسطورة التي لم تعد تعني بعض المعاني الغامضة الدالة على الأشياء الغريبة صعبة التصور، بل تلك التي تدل على نسق فكري. فعندما جلس “ميداس” إلى المائدة المليئة بما تشتهيه النفس من طعام وشراب – عقب تحقيق أمنيته بتحول كل ما يلمسه إلى ذهب – أحسَّ بثقل المأساة، عندما تحوَّل ما يلمسه من الطعام والماء إلى ذهب بين يديه، وتمنى حرمانه من قدراته الجديدة، وكره الذهب أكثر مما كره الموت، وتوسل إلى الله قائلاً: “لقد أخطأت.. لقد أخطأت ولا مرد لما ارتكبت”، وتضرّع إليه يخلصه من محنته، فردّه الله إلى طبيعته الأولى، هذه الحكاية الأسطورة، ذات دلالة واضحة على نمط التفكير الإنساني السائد حينذاك. ومثلها حكاية سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة بأن يحمل حجراً على ظهره ليصل به إلى قمة الجبل، فيسقط الحجر منه ويعود لحمله مرة أخرى، إلى ما لا نهاية، وما تمثله هذه الحكاية من دلالة على عبثية الحياة وعدميتها في بعض نواحيها على الأقل.
وبالنظر إلى هذه الأفكار تتضح ماهية الإنسان وطابع العقل البشري في مراحله المختلفة الذي تطور إلى الاستقلال الفكري على أيدي المفكرين النظريين في القرن السابع عشر، حيث تحرر العقل الغربي من سلطة الفكر الأسطوري واللاهوتي وأصبح قادراً على النهوض والوقوف على قدميه، لقد آن الأوان للعقل العربي أن ينطلق كالسهم إلى عنان السماء بإطلاق الذهن من عقاله ودفعه إلى التخيل والمزيد منم التخيل المنظّم، فيقف تقدم الإنسان وتطوره في اللحظة التي لا يستطيع فيها أن يتخيل، وتتباطأ معدلات رُقِيِّه وتنميته بفعل القيود التي تحدّ من قدرته على التخيّل.
وحقنا في التخيّل – نقطة الانطلاق إلى الإبداع – يلزمنا ألا نفرط به بالرضوخ إلى القوالب الفكرية الجامدة التي نتلقنها منذ الصغر، فالحدث الأسطوري هو تخيل آخر لواقع متجدد، متجاوزاً الواقع المليء بالألم الجميل، فالواقع المعاش غالباً مؤلم، تلطَّفه رياح التخيل ورذاذه، فلنتخيل ولنتدرب عليه من أجل إلغاء جزئي للواقع اليومي.
.. إنها دعوة إلى ممارسة الحق الطبيعي في التخيِّل، تَخيَّل ما شئت، قبل أن تنام يومياً لمدة عشر دقائق فقط، وابذل جهداً خيالياً كي تتخيل أنك تعيش في عصر آخر كنت تتمنى لو أنك ولدت فيه، تخيَّل أنك لم تفقد في الحياة من تحب وأنه ما زال حياً، ودع لأفكارك تداعياتها، تخيل أنك طائر محلّق في السماء تشاهد الأرض من علو بما عليها من البشر، تخيَّل أنك على حافة هاوية على وشك السقوط الدائم فيها، تخيَّل أنك ذُقت الموت غرقاً وولدت من جديد، تخيَّل أنك مُتَّ مرتين. تخيَّل ما شئت، فالتنمية المخيلية لا تقل أهمية عن التنمية الاجتماعية والاقتصادية، فالأولى تسعى إلى سعادة البشر والثانية إلى رفاهيته.
وتخيَّل كم كان العالم سيخسر لو لم يتخيل الإغريقي “بينيلوبي” تنسج على نول غطاءً لوالد زوجها، أوديسيوس الغائب منذ 20 عاماً، وتنسج خيوط القدر، وتخرب في الليل ما حاكته طوال النهار لكي تؤخر الأجل إلى ما لا نهاية . . . وحذار أن تتعجَّل الرحيل فرحلتنا واحدة، وتخيَّل كم هي جميلة . . . الحرية.