في البدء لم تكن هناك مرايا، ولم يكن الإنسان قادراً على رؤية نفسه. وتحكي الأسطورة الأغريقية أن نارسيسوسNarcissus، هو أول شخص استطاع أن يرى نفسه، ذلك أنه لم يكد يبلغ السادسة عشرة من عمره، حتى أخذ يحرك الرغبة لدى الفتيان والفتيات على السواء، لجماله وطراوته. وفي إحدى ليالي الربيع المقمرة، شد بجماله انتباه الحورية الثرثارة "إكو" Echo، التي لا تستطيع سوى ترديد نهاية الكلام الذي تسمعه، ولقد خذلها نارسيسوس Narcissusبغروره وكبريائه، وأبت عليها كرامتها إلا أن تختبئ في الغابة، ولم يعد يراها أحد، وإن بقي الجميع يسمع صوتها يتردد في الوديان والجبال. ولم تكن "إكو" هي الوحيدة التي
حطم نارسيسوس قلبها، لقد سبقها الكثير من العذارى والفتيات، حتى تضرعت إحداهن إلى السماء أن يقع نارسيسوس في شباك حب لا يخرج منه سالماً.
في أحد الأيام دفعه ظمأه إلى غدير ماء عذب، فركع على ركبتيه وأطل برأسه، فإذا بصورته المنعكسة على الماء تأسر لبه، فافتتن بها وخالها حقيقة، امتلأت نفسه إعجاباً بالآخر، فحاول ملامسته وتقبيله، إلا أن الماء المراوغ لم يحقق له أمنيته. لم يستطع نارسيسوس مغادرة المكان، وأخذ يحملق في الصورة غير مدرك أنها خيال، وكلما حاول الإمساك بها، هربت منه.
وفي ومضة صدق، اكتشف نارسيسوس الحقيقة وتأكد له أن ما يراه ليس سوى صورته منعكسة على صفحة المياه، فتمنى أن ينفصل عن جسده، وتداعى فوق العشب على ضفاف البحيرة مغمضاً عينيه إلى الأبد، وإذا بزهرة نرجس تتفتح في المكان الذي مات فيه.
منذ تلك اللحظة اكتشف البشر المرآة كعاكس للشكل، وكطريق لمعرفة الذات.
فالمرآة هي اقتراب من الحياة بما تعكسه من صورة لموجود وهي ابتعاد عنها بما تحققه من صورة ذهنية، بواسطتها نقترب من الأشياء، ونبتعد عنها في آن معاً.
والمرآة صادقة، فهي لا تعكس سوى الموجود. هل شاهد أحدنا مرآة تعكس شيئاً غير موجود؟ فالمرآة في الطبيعة هي المياه الصافية، أو أي سطح قادر على أن يعكس ما هو أمامه. والمرآة الاصطناعية، هي المصقولة التي لا يوجد مكان به بشر إلا وتجدها بداخله. والمرآة المجازية، هي نحن، فكل منا مرآة لآخر، المحبوب مرآة الحبيب، "والمؤمن مرآة أخيه" والقمر مرآة لأشعة الشمس. وهي نقطة التقاء الرائي والمرئي، وبوابة الإنسان لمواجهة نفسه وجهاً لوجه. ويكتمل دور المرآة لدى النظر فيها والتعمُّق في النفس المواجهة لها، وكما يهتم المرء أمامها برعاية جسده وتجميله، عليه أن يدعم ذلك بتجميل الداخل، ذلك أن المرآة لا تقدم شيئاً جديداً، وإنما تعكس ما هو موجود، وتعطي الرائي الفرصة لتحسين المرئي، وهي جديرة بالاحترام على رغم عدم أمانتها، فاليد اليسرى في المرآة هي يدك اليمنى واليد اليمنى في المرآة هي يدك اليسرى في الواقع.
ولقد استخدمت الأسطورة الأغريقية المرآة في أحيان عدة، فكانت المخلوقة الغريبة "الجورجونة ميدوسا" والتي يتكون شعرها من الأفاعي تحيل كل من ينظر إليها إلى تمثال حجري، وفشل الجميع في قتلها، فاحتال بيرسيوس عليها بأن نظر إليها من خلال الترس البرونزي الذي كان يحمله على ذراعه اليسرى، مستغلاً إياه كمرآة، فقتلها وهي نائمة، دون أن يواجهها عيناً بعين.
والأسطورة، وهي تفسير لحقائق موجودة تعلل وجودها، لم تخل على مستوى شعوب العالم من المرآة، فالكهنة أو السحرة أو العرافون يجلسون وأمامهم مرآة بلورية يحدقون بها ليعرفوا الغيب ويقرأوا الطالع.
ومع تطور العلم، تطورت المرآة وتعددت أشكالها.
فالمرآة المقعرة تظهر الأشياء أكبر مما هي عليه في الواقع، فتجعل الصغير كبيراً. والمرآة المدببة تجعل الكبير صغيراً. وهكذا فإن الإنسان مرآة للآخر، والبعض منا يجعل من الآخر كبيراً، وإن كان في الواقع صغيراً. وقد يجعل الكبير صغيراً، وإن كان في الواقع كبيراً.
واستخدم العلم الحديث المرآة لتوليد الطاقة، فالسخَّانات الشمسية والمحطات الفضائية تستخدم المرآة لتجميع أشعة الشمس وتحويلها إلى طاقة، والسفن الفضائية والتلسكوبات تستخدم المرآة لسبر أغوار الفضاء. ولقد حاول العلماء السوفيات وضع مرآة ضخمة في الفضاء لإنارة الجزء المظلم من الكرة الأرضية، عن طريق عكس أشعة الشمس عليه، إلا أن التجربة منيت بالفشل، وربما تنجح مستقبلاً، وعلى رغم أهمية المرآة، إلا أنه حتى الآن لم يكتب تاريخ لها كما لم يكتب تاريخ لأشياء لا تقل أهمية عنها. إلا أنه من المعروف أن المرآة كمعدن مصقول، وجدت في عصر الفراعنة، كما أن المرآة الحديثة التي نستخدمها حالياً، صقلت في مدينة فينيسيا، في بدايات القرن السادس عشر.
لنتخيّل معاً عالماً بلا مرايا، ماذا سيحدث عندئذ لقائدي السيارات؟ وكم من الحوادث والكوارث ستتم، ومن ينظر إلى المرآة ويرى قبحاً، فليجمله بمحاسن الأخلاق، ومن ينظر إلى المرآة ويرى جمالاً، فليحافظ عليه. وللمرآة الفضل في التأمل، إذ يصعب النظر إليها دون إعمال الفكر، ولو للحظات. وهي كالمحبوبة التي لا يخجل أحد من الوقوف عارياً أمامها، وربما الإتيان بحركات غير جادة، ثقة بأن أحداً لن يراه سواها، أي أن الرائي والمرئي في آن معاً، وما المرآة إلا الوسيط الصامت.
والمرآة لا تعكس واقع الشيء الذي يقف أمامها، كالضوء عندما يسقط على شيء يلقي بظلاله، فلا نستطيع الإمساك بالظل، كما لا نستطيع الإمساك بالصورة. ويبقى الأصل في الواقع، والصورة في اللاواقع المنظور، وهل من الممكن أن يكون الوجود بما يحتويه من موجود، عبارة عن ظلال أو صور لواقع آخر لا ندركه؟
ومن مزايا المرآة، أننا إذا وضعناها على جدران الغرفة كافة، باستطاعتها صنع جيش من الأشخاص إذا دخلها أحدنا.
وسنرى الشخص بأعداد لا نهائية، وصور بلا حدود لواقع محدود. وهل بإمكان أي شيء آخر غير المرآة فعل ذلك؟ إن المرآة تدفع بنا إلى تصورات جديدة، بدلاً من الرتابة والملل في الواقع الجاف، وكم ستكون الحياة مملة من دون مرآة؟ فانعكاس الأشجار على ضفاف البحيرة هو الجمال وليس البحيرة في حد ذاتها أو الأشجار بعينها.
كما لعبت المرآة دوراً عظيماً في تنمية الإحساس بالذات، ومعرفة النفس على نحو افضل، ورؤية شكل الشخص كما يراه الآخرون، فقد لعبت دوراً في الأدب، ولعل أشهر مرآة أدبية، مرآة أوسكار والد في روايته "صورة دوريان غراي" وفيها يرسم السيد/ بازيل هولوورد صورة رائعة الجمال لدوريان غراي، الذي أعماه حب الدنيا فتمنَّى أن تحمل الصورة خطاياه، وأن يحتفظ بشبابه وجماله إلى أن يموت، فحقُّقت له الآلة أمنيته، وأصبحت سلوكيات دوريان وخطاياه تنعكس على الصورة، فصارت مرآة روح دوريان وضميره الحي. ومع مرور الزمن تحولت الصورة إلى شكل وحش ممسوخ، وكان دوريان يدخل إلى الغرفة المغلقة، حيث الصورة، حاملاً مرآة، ينظر تارة إلى الصورة المملوءة بالدم والتشوهات، وتارة أخرى إلى المرآة، فيرى وجهه الجميل. بدأ يعشق نفسه من خلال المرآة، وقرَّر في لحظة غضب أن يقتل ضميره الحي، بأن يمزَّق الصورة، فأمسك بالمدية وطعن بها الصورة، فمات في اللحظة نفسها دوريان غراي، وعادت للصورة نضارتها وجمالها لحظة رسمها، وظهرت التشوهات والقبح على وجه دوريان.
تلك الحكاية توضح أن إدراك الإنسان لذاته مرهون بإدراكه لجسده، الذي يتعمق من خلال المرآة، فانظر إلى المرآة وتأمل وأمعن التفكير، فقديماً صوّروا آلهة الحكمة على شكل سيدة تتأمل ذاتها من خلال المرآة.