ظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب في أوائل القرن السابع الميلادي، فرفع العرب من قبائل متناحرة إلى أمَّة تحكم دولة تمتدّ من الصين شرقًا إلى بلاد المغرب والأندلس غربًا؛ ومن القوقاز شمالاً حتَّى المحيط الهندي جنوبًا.
وقد حمل مسلمو هذه الدولة مشاعل العلم والثقافة ونشروا في أرجائها حضارة تمكَّنت من الصمود زهاء عشرة قرون في مواجهة مختلف المحن والأعاصير الَّتي عصفت بها، ثم قدَّمت للعالم الأسس والأصول الَّتي قامت عليها فيما بعد الحضارة الأوروبية الحديثة.
وبينما كان الرسول (صلّى اللّه عليه وسلّم) يدعو العرب إلى الإسلام، ويجمع شملهم على عقيدة التوحيد، ويهذِّب طباعهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور تحت راية الإسلام، كان الصراع العنيف بين أكبر إمبراطوريتين في العالم حينذاك، الروم والفرس، قد بلغ ذروته. كانت الغلبة للفرس، عَبَدَة النار، على الروم المسيحيين، ممَّا أحزن المسلمين في الحجاز، فهم أهل كتاب مثل المسيحيين الروم.
وبلغت انتصارات الفرس معظم آسيا الصغرى وبلاد الشام، وما لبثوا أن استولوا على بيت المقدس ومصر. إلا أن الروم استعادوا قوَّتهم بزعامة >هرقل<، الذي انتصر على الفرس حتَّى بلغ عاصمتهم، المدائن. وهنا وضعت الحرب أوزارها، وعُقِدَ الصلح بينهما، فخرجت الدولتان وقد تحطَّمت قواهما، واستنزفت الحرب مواردهما، وابتليت شعوب الإمبراطورية الفارسية بالضرائب الباهظة وقسوة الحكَّام وعسفهم في طريقة فرضها وجمعها، كما ابتليت إمبراطورية الروم بقسوة الحكَّام وعسفهم بالمخالفين للمذهب الديني للدولة.
أتمَّ الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) نشر رسالته بين العرب، وأرسل كتبه إلى ملوك العالم وحكَّامه يدعوهم إلى الإسلام، وحين انتقل إلى جوار ربّه كان قد خلَّف العرب أمَّة واحدة، مؤمنة بوحدانية اللَّه وبعقيدة الدين الحنيف، الَّتي كانت لهم سراجًا أنار لهم السبل لفتوحاتهم في بلاد الفرس والروم. لقد هذَّب الدين الإسلامي طبائع العرب، وساوى بين المسلمين، وآخى بينهم، ووجَّه عقولهم إلى ما أودعه اللَّه من خير وجمال في هذا الكون، ووجَّه قرائحهم إلى الوقوف على أسراره، وأهاب بهم العمل للتمتُّع بخيرات الدنيا ونعيمها، وأن يعبدوا اللَّه أملاً بالآخرة ونعيمها. ولم تكن للعرب قبل الإسلام مدنيّةٌ يُعرفون بها، ولا يعني ذلك أنَّهم كانوا شعبًا بعيدًا عن الحضارة، فالواقع أن العرب كيَّفوا حياتهم ونظام معيشتهم على وفق جغرافية بلادهم، فعرب الجنوب: اليمن وعدن، كانوا يعيشون في إقليم خصب التربة وافر المطر، فاعتنوا بالزراعة والري، وعاشوا حياة مستقرَّة، ومارسوا التجارة بين الشرق الأقصى والمدن المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط، وعرَّفتنا آثارهم وجود مملكة عظيمة هي المملكة المعينية 1500ق.م، ثم مملكة سبأ، الَّتي ظهرت في القرن الثامن ق.م، واشتهرت بقصورها وعمائرها، ثمَّ مملكة حِميرَ 115 ق.م، الَّتي واجهت صراعًا مع الإمبراطورية الرومانية على الطريق التجاري عبر باب المندب إلى الشرق الأوسط، ونجحت جهود عرب اليمن في طرد منافسيهم من طريقهم. وفي القرن السادس الميلادي اشتدَّ الصراع الديني بين اليهود والمسيحيين، الذين تعرضوا لمذبحة بشعة مما دفعهم إلى الاستعانة بدولة الروم لإنقاذهم وحمايتهم، وطلب إمبراطور الروم من نجاشي الحبشة الانتقام من اليهود، فأرسل النجاشي جيشًا انتصر على >ذي نواس<، ملك اليمن، وأصبحت البلاد وعرب الجنوب تحت سلطان الروم، فاضمحلت حضارتها، وتصدَّع سدّ مأرب العظيم، وساد الفقر البلاد، فهاجرت قبيلة بني غسَّان شمالاً باتجاه بلاد الشام، وظلَّ عرب الجنوب يقاسون سوء الحكم الروماني، حتَّى أنقذهم إخوانهم عرب الشمال في فجر الإسلام.
وفي الشمال أقام العرب على أطراف الشام والعراق منتجعًا للمرعى، واستقروا في الأراضي الخصبة، وأنشؤا إمارات لهم كانت على علاقات سياسية وحربية مع الروم ضدَّ الفرس. وذكرت مصادر التاريخ مدنًا مثل >البتراء< الَّتي دمَّرها تراچان، وأسَّس العرب أيضًا إمارة >الحيرة< الَّتي تحالف أمراؤها مع الفرس ضدَّ الروم. وفي القرن الرابع الميلادي أسَّست قبيلة بني غسَّان إمارة على حدود الشام وتحالفت مع الروم ضدَّ الفرس وكلَّما قويت شوكت الغساسنة أطاحت بهم الدولة الرومانية ونفت أميرهم إلى صقلية، وحين اعتنق عرب >الحيرة< المسيحية، قضى الأكاسرة على هذه الإمارة أيضًا. كان عرب الحجاز أهل تجارة يتنقلون بين الجنوب والشمال وكانت عاصمتهم مكَّة، حاضرة بيت اللَّه الحرام. وقد نصبوا فيها أوثانهم ونظَّموا الحج إليها. وكما كانت الوثنية منتشرة في أهم مدن الحجاز، مثل مكَّة والمدينة والطائف، انتشرت اليهودية والمسيحية أيضًا، وعن طريق قوافلهم التجارية ألمَّ العرب بالأحوال السياسية والحربية والاجتماعية والدينية في كل من بلاد الفرس والروم. ولذلك لا نستطيع القول إن العرب لم يكونوا أهل حضارة، وإنما ـ نظرًا لطبيعة بلادهم ونظام معيشتهم القبلي ـ لم يتقبَّلوا النّظم الحضارية، وإن ألمّوا بها وعرفوها. وانطلق المسلمون ـ وقد تشرَّبت قلوبهم بعقيدة الدين الحنيف ـ إلى بلاد الروم والفرس، فنزلوا على أهلها بردًا وسلامًا. ولم يغيّر المسلمون ما تعوَّد عليه أهل البلاد المفتوحة من نظم إدارية أو عقيدة دينية أو لغة قومية، وبدخولهم الإسلام تعلَّموا اللُّغة العربية، لأنَّها لغة القرآن الكريم كما هي لغة الحكَّام. ولم يشتغل العرب، في بدء حياتهم وتاريخهم الإسلامي، بالزراعة والصناعة، ولكنَّهم تركوا أهل البلاد يمارسون تلك الحرف، واهتموا من جانبهم بالنهوض بالسياسة الزراعية فنقلوا مزروعات بعض البلاد إلى ما يوائمها من بلاد أخرى، وكذلك بتحسين وسائل الريّ وإقامة المشروعات المائية في جميع المناطق الزراعية الَّتي كانت تابعة لهم، كما شجَّعوا التجارة ونظَّموها في البحر الأحمر والخليج العربي إلى الهند، ثم عبروا الهند إلى الصين، وأنشؤا بها الموانئ البحرية الَّتي تخدمها، والمحطَّات التجارية على طريق القوافل البرية، من الهند حتى الشام، وأحاطوا الصناعات والفنون(1) برعايتهم. كما تحسَّنت في العصر الإسلامي صناعة ورق البردي(2) في مصر، وكانت دولة الروم أكبر عميل لاستيراده.
وقد بلغ طول الورقة الواحدة ثلاثين ذراعًا، حلِّيت بتطريزات عليها عبارات التثليث، وفي عهد عبدالملك بن مروان الأموي، استبدل التثليث بعبارات إسلامية. وأدَّى نشاط التجارة في العصر الإسلامي إلى رخاء دولة الروم وتحقيق عظمتها أمام الدولة الرومانية الغربية، فقد كانت دولة الروم تسيطر على التجارة الواردة من العالم الإسلامي في شرق البحر المتوسط إلى القسطنطينية، وتقوم بتصريفها في البلاد الأوروبية التابعة لها. ولما سقطت >صقلية<، ثمَّ >باري<، في أيدي المسلمين الأغالبة في القرن التاسع الميلادي، نشطت التجارة بين ميناء هذه المدينة وموانئ مصر والشام. رغم الصراع الدامي بين الدولة الإسلامية ودولة الروم، فقد فتحت الدولة الإسلامية أبوابها ومسالكها للتجارة مع الروم، وكذلك أقبل علماؤها وحكَّامها على استخراج العلوم والثقافة اليونانية، وقاموا بنقل التراث اليوناني إلى اللغة العربية، وعرِّبت قوانين البلاد المفتوحة ونظمها الإدارية كما عرِّبت علومها وثقافتها. وبلغ من عناية الأمراء المسلمين بالعلوم والثقافة أن أمر عُمر بن عبدالعزيز الأموي بنقل مدرسة الإسكندرية إلى إنطاكية، حيث كان مقرّ الخلافة في دمشق، وكلّف خالد بن يزيد بن معاوية بعض علماء الإسكندرية بترجمة كتب الكيمياء التي كان هو نفسه مهتمّـًا بها، وترجم >ماسرجويه< الطبيب الفارسي، كتابًا في الطبّ من اللّغة السريانية إلى العربية، وبذل الحكَّام المسلمون الأموال لاستجلاب المخطوطات من اليونان وفارس والهند، وأغدقوا على مترجميها. وفي العصر العباسي ظهرت حركة الترجمة، ممَّا حدا بالخليفة المأمون، إلى تأسيس >بيت الحكمة<، وخصَّص لجنة للإشراف على الترجمة. وفي هذا العصر تُرجمت كتب >أرسطو< و>إقليدس< وغيرهما، ونبغ من المسلمين نخبة من العلماء، وضعوا أصولاً ومصنَّفات للعلوم، ظلَّت حتى القرن السابع عشر المراجع الأساسية في الجامعات الأوروبية. وبظهور المدارس الإسلامية، من شيعة ومعتزلة وعلوية، ظهرت حركة ضخمة في الرأي والفكر، وحقد الفرس على الأمراء الأمويين، لاستئثارهم بالسلطان وقصرهم مناصب الحكم والإدارة والوزارة على العرب، ودعوا للعباسيين حتى أظهروهم على الأمويين وأزال العباسيون دولة بني أميَّة، بتأييد من الفرس ولم يلبث هؤلاء أن أحسَّوا بطموح الفرس إلى مناصب الحكم الرئيسة، فقضوا على تلك النزعة بمنتهى الصرامة، وخاصَّة روح الزندقة التي بدأت تنتشر في عصر الخليفة المهدي العباسي. ولا ننسى أن السامانيين، وهم من الفرس الذين حكموا بلاد ما وراء النهر في العصر العباسي، قاموا بإحياء اللُّغة الفارسية ومالوا إلى تقاليدهم وتاريخهم القديم، وفي عهدهم نظم >الفردوسي< الشاعر >الشاهنامة<، التي مجَّد فيها الفرس وتاريخهم، ولا تزال >الشاهنامة< توحي إلى الإيرانيين حتى اليوم بمعاني الوطنية والوحدة القومية. ولمقاومة تطلُّعات الفرس إلى السلطان استجلب الخلفاء العباسيون الجند الأتراك، وأكثر منهم المعتصم، فكان هؤلاء أشدّ خطرًا على الخليفة والخلفاء من الفرس. ومع انقسام العالم الإسلامي في العصر العباسي إلى دويلات مستقلَّة تابعة للخلافة تبعية اسمية، إلاّ أنّ الدين الإسلامي كان الحبل المتين الذي ربط كل الولايات الإسلامية برباط واحد، وكان المسلم ينتقل من أي بلد من الشرق إلى آخر في الغرب فلا تعترضه أية عقبات أو حواجز، بل كان يجد ـ حيثما نزل ـ قومًا يدينون بدينه ويتكلَّمون لغته، ويشاركهم في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. وكان الحكَّام والأمراء والسلاطين والولاة وعلية القوم يولون الصناعات والفنون كلّ عنايتهم ورعايتهم. وكما كانوا يجلبون العلماء والشعراء والأدباء، كانوا يستدعون أصحاب الحرف والفنون، لتحقيق رغباتهم في ما يريدون إنشاءه وما يرغبون فيه من حلية وزينة. وكان الفنانون أنفسهم يسعون وراء الحكَّام والأمراء، يعرضون عليهم فنونهم ومنتجاتهم. وعادة ما نرى ازدهار الفنون في عهود الرخاء، وقوَّة شخصية الحكَّام، ولذلك كان للحكَّام المسلمين، من العرب أو من غيرهم، تأثير كبير على تطوّر الفنون الإسلامية وازدهارها.