استقطب فيلم مي المصري الجديد "أحلام المنفى" لدى عرضه في المجمع الثقافي- أبو ظبي، جمهوراً كبيراً شاهد تلك اللحظات الأليمة... والجميلة من الحكاية الفلسطينية.
* ببساطة هي بساطة حياة أبناء المخيمات، وكذلك بالهواجس نفسها والأحلام المدفونة في قلوبهم، تقدم المخرجة الفلسطينية مي المصري فيلمها الثامن "أحلام المنفى"، وهو يحكي عن الحياة في مخيمي شاتيلا في لبنان والدهيشة في الضفة الغربية المحتلة، ويتناول بأسلوب فني راق حياة مجموعة من الشبان في مقتبل العمر في كل من المخيمين.
يؤكد الفيلم أن تجربة المبدعة الفلسطينية "ابنة القصور" دخلت كالبرق في نسيج الحركة السينمائية الفلسطينية، مؤكدة أن للنضال وجوهاً عدة، فالفيلم أقوى من رصاصة تطلق على محتل إسرائيلي بائس، أو طائرة تُخطف بركابها الأبرياء الذين لا ذنب لهم، أدَّت المخرجة دورها بنجاح باهر في إخراج هذا الفيلم القيِّم، الذي يحتاج إلى دعم كامل من النقاد والجمهور على السواء، ولا سيما من خلال شراء نسخ منه وإهدائها إلى الأصدقاء من الأجانب، فهو يحمل مضموناً إنسانياً ووجهة نظر قادرة على مخاطبة الآخر ومحاولة إقناعه من دون ضجيج بعدالة القضية الفلسطينية.
يقوم الفيلم على الصدق والعفوية الهائلة في اصطياد (وتصوير) أحداثه المفاجئة والمرتجلة أحياناً كثيرة، ولم يخلُ من التشكيل الحركي الراقص في بعض المشاهد التي تعرض للدبكة الفلسطينية، فتقطع مشاهد البؤس والحزن بحركات الفرح، هنا تنافس الكلمة الكاميرا في حسن الأداء، فالرسائل المتبادلة ما بين "سمر" و "تمارا"، و "منى" و "منار"، حافلة بالعواطف الإنسانية والسيناريو جدير بالاحترام. ونجحت المخرجة في تحريك الأشخاص (الممثلين) في تناسق مع الإضاءة والموسيقى، فأنتجت معنى تعجز المقالات والكتب عن إيصاله إلى المتلقّي. ولم تكن هناك شخصية درامية تقليدية، كما لم يكن هناك تمثيل بالمفهوم المعتاد. كان الحدث هو الدراما، مأساة فلسطين ماثلة أمامك من دون طرح مباشر، ولم يكن الممثلون، سوى شريحة عادية من الفلسطينيين تمارس حياتها في شكل تقليدي. واستطاعت الكاميرا التقاطها بحرفية عالية، وبحسّ سينمائي مرهف.
وعلى المستوى الدلالي، نجحت المخرجة في الولوج بنا إلى الهمّ الجماعي وولدت داخلنا الشعور بأننا كلنا فلسطينيون من دون إلحاح.
ولم يكن هناك دور للبطل الفرد، كنّا نحن المتفرجين جزءاً من العرض، وقفنا ودبكنا مع مشاهد الرقص، وانسابت الدموع من أحداقنا عندما فصلت الأسلاك الشائكة بين العالئلة الواحدة، وكبر داخلنا الإحساس بالضياع، وعرفنا معنى الرحيل عندما هاجرت "سمر" إلى لندن طالبة اللجوء السياسي.
والواقع أن المخرجة استطاعت خلق التوافق والتجانس بين الإيقاعين النغمي والجسدي، وبرعت في استخدام مقاطع صغيرة من أغاني أحمد قعبور.. "أناديكم أشد/ على أياديكم/ وأبوس الأرض/ تحت نعالكم/ وأقول أفديكم". ووظّفتها في الشكل الذي يخدم القضية المطروحة.
وإسرائيل ... وإن اغتصبت الأرض، فلم تستطع سرقة الدبكة الفلسطينية، بما تحمله من تراث آلاف السنوات، ولم تستطع اغتصاب الفرح لحظة الرقص. لم تستطع ولن تستطيع قتل الأمل فينا، هنا فلسطين وهناك فلسطين. عندما تدبك الأرض، وعندما تحلم بأن تكون عصفوراً لتكون حراً، وتأمل ألا تكون فراشة كي لا توضع ما بين دفتي كتاب، وعندما تحلم بأن يكون أمامك بحر. هذه التدفقات من المشاعر ستُسيل الدمعات على وجنتيك وستردد مع الفيلم المقطع الذي جاء على لسان إحدى الفتيات:
"فلسطين أفدى ثراك بعمري
يهون لأجلك نبض الحياة
ستشرق شمسك رغم المذابح
رغم القيود ورغم الطغاة
فلسطين إني أسائل نفسي
وسيف الأسى عالق بالشفاه
لماذا يموت الوليد سريعاً
ويبقى طويلاً طويلاً لما؟"