دروب من الآلام
في حياة زائفة، ذهبت إلى النوم متحلياً بالجسارة والإقدام، قافزاً على الأوجاع التي تتراءى وتختفي في ظهري، تارةً على شكل أفعى تتفنن في بث سمومها، وتارةً على شكل شياطين صغيرة تدق بأسافينها في ظهري. خطفني الوسن إلى لجته، وبدأَ النومُ يتسللُ إلى جسدي، ولقد رواغت الآلام وراوغتني، بالنوم يمنةً حيناً ويسرةً حيناً آخر، وانقضى حين من الزمن في تلك المراوغات إلى أنْ بدأتُ أشعر بخدر لذيذ يتسلل إلى ذراعي اليسرى ماداً بظلاله إلى ظهري. بدأتُ أستمتع بهذا الألم اللذيذ إلى أن تحول رويداً رويداً إلى آلام يصعب تحملها، أشعر بالرثاء لحالي، لم تفلح جهودي في النوم، وكُتب علينا السُّهْدُ كما كتبت علينا الحياة.
لملمت أشلائي، وصحوتُ لمطاردة الساحرات اللاتي يطرقن بعصيّ مكانسهن على ظهري، وأصوات الدفوف تخترق أذني، في عتمة الليل الفسيح تنسج الألوان عذاباتي، الرعب نفسه، الحياة نفسها التي لا دواء لها، إنها مرة أخرى تراوغني عذاباتي، أنا ولست أنا، يا إلهي!، كيف أقضى نهاري ولم ينقضِ ليلي، كيف أقضي ليلي على خيالات أشباح مليئة بالحياة أكثر من حياة أشخاص ألتقيهم في نهاري.
لست أدري إن كنت نائماً أم هو إحساس بالنوم، إنني أصحو من نوم لم أنعم به، كوديات الزار يملأن نومي، هل لا زلت ذلك الطفل الخائف؟ لكني لست كذلك. هل الأشباح لا زالت في الصندوق وتتسلل منه متسلقة آلامي، رعب الكودية لم يفارقني، الإيقاعات نفسها تجتاحني، ترمي بي إلى شواطئ لا بحار لها، وإلى بحار بلا شواطئ، أبكي طفولة ضائعة أم أبكي حياة تنساب من بين يديّ، يمضي العمر سريعاً والموسيقى التي لم أسمعها صرت أتقن عزفها، والساحرة التي لم أرَها، صرتُ أتقن رسمها بالألم تارة وبالعذاب تارة أخرى.
عصافير صغيرة بألوانها الزاهية تشدني إلى النوم، وساحرات يصفعنني كي لا أنام.
لم يشأ سوء الطالع أن يقع شيء واحد على الأقل في ذات اللحظة، بل شيئان، موت في مكان آخر من العالم لا يعرف الناس عنه شيئا، وساحرات يستمتعن بالقرع على ظهري، وأنا حائرٌ ما بين الطبول والأرداف، يأتيني الألم حيناً على شكل فراشة، وأحياناً أُخرى بركانٌ أحمر ثائر لا يهدأ، إلا بأوجاعي.
صخبٌ عنيف كطرطقة بركان قبل أن يثور، يعقبه صمت كصمت القبور، إلا من دبيب حشرة تقتات على الجثامين. من أدخل دبور الألم إلى جسدي؟، كلما أبصرتُ شعاع النوم يسرع في نخزي، من يحفر الألم عميقا؟ من لا يريد النوم لي! من في هذه الأرض الرطبة المليئة بالحياة يريد الموت لي؟ من يرتاح لآلامي؟ من يتغذى على جوعي؟ من يسعد بشقائي؟، من يريد النوم هانئاً قرير العين سارقا مني نومي؟.. ربما الساحرات! ربما نساء الزار والكودية دبت فيهن الحياة، ورجعن إلي من جديد، نسوة يدرن بجنون من حولي، بملابسهن الحمراء والزرقاء، ويرقصن بنهودهن المكتنزة الشامخة، وبتلك المترهلة التي تهتز على وقع القرع العنيف للطبول، وطقطقة الصناجات والدفوف، وسط روائح البخور التي تفوح في أرجاء المكان، بينما أنا أدور بينهن آملا أن يخرج الجن مني، مع كل صعود أو هبوط، رُبما شياطين الحب أو ملائكة الكره، ربما نساء لم يولدن بعد يزرنني من العدم، ربما أناس لا أعرفهم يستمتعون بعذاباتي، وأنا المتكئ على حافة الموت بعصا تكاد أن تسندني.
هل آن الأوان لوداع حريق لا ينطفئ؟ ساحرات لا ينفككن عن مطاردتي، كوديات الزار يغرسن بنصال أصوات دفوفهن في رأسي، وأنا الجاعل لهن آلامي سترا لئلا تشتد الريح وتعصف بما تبقى من قدرتي على الاحتمال.
كانت العرافة على حق عندما قابلتني في أحد المنامات، وكلمتني بصدق عن حياة مليئة بالبالونات والشموع والزهور الملونة، هي مصيري، وكانت على يقين العارف عندما قالت بأن تحت هذه الألوان تقبع كوديات الزار بدفوفهن التي تدق في رأسي وبأردافهن التي تأخذني يمنة ويسرة في بحر التيه العظيم، هل مكتوب علي الاستحمام بالدماء مرتين؟..
ثمة ثلاثة أشياء عليّ فعلها.. فلأذهب لمزيد من جلسات العلاج، وهي أخف عليّ من إبر الساحرات، ولأدفن رأسي ما بين جناحي فراشة لم تتعلم الطيران بعد، علّني أطرد كوديات الزار من رأسي، وأما الثالثة فلنتركها للزمان والرياح تعصف بها ما تشاء، إلى أن يحط رأسي على أرض لم تتكون بعد.
محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني مقيم في أبوظبي
مشاهدة المقال في فيس بوك اضغط هنا
*المقال منشورا ً صباح يوم 24 نوفمبر 2016م بجريدة الحياة، مع لوحة آدم حنين.