بدأت الحضارة الغربية وضع أسسها في العام 1492م باكتشاف كريستوف كولومبس القارة الأمريكية، التي كانت عامرة بسكانها الأصليين وبحضارات الأزتيك والانكا والمايا. ولقد تعامل الغزاة الغربيون مع السكان الأصليين بهدف إبادتهم والاستيلاء على أرضهم بما تمثله من موارد اقتصادية وأحلام بالثراء السريع، إلى أن تمت إزاحتهم بحضاراتهم وثقافاتهم. وهيمنت اللغة الإسبانية ولاحقاً الإنكليزية على القارة الجديدة، وقد قدر للعالم الجديد أن يسيطر على العالم القديم بعد خمسمئة عام.
وفي تاريخ متزامن أيضا كانت الأندلس تسلم آخر حبة رمان تتساقط في أيدي فرديناند وإيزابيلا، غرناطة، التي كانت تمثل اللؤلؤة في جبين الأندلس وعزتها، والتي لعبت دوراً رئيساً في انتقال الحضارة العربية الإسلامية إلى أوروبا، ذلك أن العرب الذين استوعبوا ودمجوا في حضارتهم المنمنمات الفارسية والعلوم الإغريقية والعظمة الرومانية، نقلوا مشاعل الحضارة من الشرق إلى الغرب مكرسين بذلك دورهم كحلقة هامة في تاريخ الحضارة البشرية في العصر الوسيط ضمن سلسلة متصلة الحلقات في تطور الحضارة البشرية، وهذه حقيقة يدركها الكثير من الباحثين في الغرب.
بدأ تشكيل الدول الشرق – الأوسطية عقب الحرب العالمية الأولى، بتنسيق بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، فقد كانت هذه الحرب "الإمبريالية" تستهدف إعادة تقسيم العالم ومناطق النفوذ بين فئتين "جبارتين": الأنغلوا – فرنسية، والألمانية. ولم تكن التسوية التي اتفقت عليها الدول الثلاث تلبي احتياجات أو رغبات شعوب الشرق الأوسط. فقد كانت بريطانيا، ومن خلال ممثلها مارك سايكس، تحاول رسم الخطوط التي ينبغي على أطماع فرنسا أن تقف عندها. وكانت فرنسا، من خلال ممثلها جورج بيكو، ترسم حدود النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، وهكذا كانت الحال بالنسبة لروسيا أيضا.
ولم يكن تدمير البنى السياسية لأهالي البلاد الأصليين، واستبدال الإدارات المحلية بإدارات على النسق الأوروبي، شكلا من أشكال الصراع الحضاري، وإنما كان أحد أساليب ترسيخ الصراع الحقيقي، وهو المصالح الاقتصادية، فالهيمنة الغربية على منطقة الشرق الأوسط تعود لوجود النفط والمواد الأولية فيها، ولموقعها الجغرافي الإستراتيجي، أي أن الصراع لم يكن صراع حضارات، فروسيا القيصرية كانت حليفة لفرنسا وبريطانيا الاستعماريتين في الحرب العالمية الأولى، وتقاسمت الدول الثلاث الهيمنة على الدول المنهزمة، وفي الحرب العالمية الثانية كان الغرب المسيحي منقسماً على نفسه في معسكريَّن كانت اليابان الكونفوشيوسية متحالفة مع ألمانيا وإيطاليا من الحضارة الغربية، في مواجهة بريطانيا وفرنسا وأمريكا التي تنتمي إلى الحضارة الغربية نفسها، والتاريخ يهمس يومياً في آذان من لا سمع لهم بأن تاريخ البشرية هو نفسه تاريخ الصراع، الصراع على الملكية، الصراع على السلطة. إذن، فالصراع هنا محركه ودافعه اقتصادي وليس حضاريا، والتحالفات التي تتم في الحروب تحكمها المصالح وليس الانتماء الحضاري أو الديني، وإن كانا يمثلان عاملين أساسيين في الصراع. ولعل الحروب الصليبية تشكل مثالاً على هذا، فهذه الحملات "المسيحية" الغربية لم تستهدف المسلمين فقط بل شملت فظائعها مسيحيي الشرق بما كانوا يمثلونه من وجود وكيانات.
إن الإنسانية تواجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، محاولات سيطرة السوق وديكتاتورية النموذج الاقتصادي الغربي، في وقت ما زال فيه العالم ينقسم بحدة بين فئة تستأثر لنفسها بوسائل الحياة حتى التخمة، وأخرى تُركت لمصيرها!!! كي تموت قبل أوانها. وعلى الرغم من أن عشرين بالمئة من البشرية يسيطرون على ما نسبته ثلاثة وثمانون بالمئة من الثروة العالمية، فإن التعايش في عصر العولمة يمكن أن يمتلك مقومات أفضل من الفترات السابقة، إذا استندت العولمة إلى قيم أخلاقية في أهدافها وأساليب تنفيذها، كالعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، وعدالة توزيع التكنولوجيا على العالم، والأخذ بيد العالم الثالث ليتقدم بعض الشيء، ومكافحة الفقر في كل مكان، وتقريب الهوة ما بين الشمال والجنوب. وإذا اقتصرت العولمة بأدواتها الحالية، من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، على الجوانب الاقتصادية، فإن هذه العولمة ستكون متوحشة وستخلق أعداء لها في كل مكان ما لم تربط آليات السوق بتحقيق بعض الأهداف الاجتماعية المتماشية مع مصالح الطبقات المقهورة. والحرب التي تشنها الولايات المتحدة، ومعها بقية العالم، ضد "العدو" غير المحدد والموجود في كل دولة وفي كل مكان، ليس صراع حضارات، ونؤكد أنه صراع مصالح. أما الحروب بأشكالها التقليدية، كجنود وجيوش ضد بعضها البعض، فقد انتهت إلى الأبد، وأصبحت تُدار الآن من قبل مخرج أفلام سينمائية من هوليوود وبعض اللاعبين المحترفين على Play Station وليس من قبل الجنرالات. وعلينا في العالم العربي أن نستوعب هذه المتغيرات وأن نعي أن أمريكا مع ألمانيا واليابان تضع مسيرة العالم الاقتصادية، وأن أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا تضع الخريطة السياسية للعالم. كما علينا أن نأخذ بأسباب التنمية بشكل علمي، وأن نتعامل مع الغرب كشريك وليس كعدو، وأن نتمحور ونتمترس للدفاع عن مصالحنا الاقتصادية وهويتنا الوطنية.. وهذا هو التحدي.
القدس العربي 26 نوفمبر 2001